اكتئاب ما بعد الولادة.. والحرب التي أطفأت بهجة "الأمومة" بغزة!

غزة/ البوابة 24- حلا أبو عيشة:

على فرشةٍ رقيقة فوق رمال خيمتها الساخنة، قرب ملعب اليرموك، شرقي مدينة غزة، مدّت "ياسمين" (اسمٌ مستعار) جسدها بحذر. ضغطت على بطنها المُقطّب بالغرز، وطلبت من أمها أن تتركها لتنام.

تحاول الأم إقناع ابنتها "النفساء" بتناول الطعام الذي وفّرته لها بصعوبة، بعد خضوعها لولادةٍ قيصرية، لكنها كانت ترفض الأكل بحجة التعب.

تقول الأم، بينما كانت تحمل المولودة وتحاول تهدئتها: "هذه ابنتها البكر. ابنتي من قبل المخاض متوترة وخائفة. كانت تنظر إلى الخيمة وتسألني: كيف سأعود بعد فتح بطني لأنام هنا؟ كيف سيحتمل جسد ابنتي هذا الحر كله؟ كيف سأطعمها بينما أنا نفسي أعاني من سوء التغذية؟".

وضعت "ياسمين" ابنتها قبل ثمانية أيام، ومنذ ذلك الوقت -وفق أمها- لم ترضعها إلا مرات معدودة!

وتضيف: "ابنتي طوال الوقت صامتة. لا تتحدث ولا ترد على أحد. تتفادى النظر إلى ابنتها، وتغلق أذنيها عندما تسمعها تبكي. زوجها الخائف على ابنته يغضب بشدة، ويصرخ عليها لترضعها لكنها تضعها على صدرها بعد ضغوط دون رغبة، فلا صدرها يدر الحليب، ولا الطفلة تهدأ".

في مرةٍ -تزيد الأم باكية- قالت ابنتي بينما أجبرتها حماتها على إرضاع الطفلة التي كانت تبكي بشدة: "لو تموت بترتاح من كل هالعيشة أصلًا".

مرض نفسي!

للوهلة الأولى، ظنت الأم أن ما تمر به ابنتها طبيعي، نتيجة ظروف الولادة تحت وطأة الحرب، ومعيشة الخيمة، وسوء التغذية، لكن بعد أن طال أمد الحال، قررت استشارة أخصائية نفسية، لتخبرها بعد عدة أسئلة طرحتها عليها، أن الأعراض كلها تدل على إصابة ابنتها باكتئاب ما بعد الولادة.

ويُعد مستوى الوعي باكتئاب ما بعد الولادة في قطاع غزة عمومًا، بعيدًا عن المستوى المطلوب، من قبل الإبادة أصلًا، وفق الأخصائية النفسية وسام عبد الله، "لكن مسبباته تزايدت نتيجة شعور النساء بالقلق المستمر، وتوجّسهن من مسألة الولادة نفسها في ظل تردّي أوضاع المستشفيات، ونقص المعدات الطبية اللازمة لولادةٍ آمنة".

بالعودة إلى والدة "ياسمين"، فتقول: "ضحكتُ عندما أخبرتني الأخصائية أنه كان على ابنتي أن تخضع لجلسات تثقيف نفسية قبل وضع مولودتها"، متسائلة: "كيف؟ ومتى؟ وأين؟ ابنتي بالكاد كانت تستطيع المشي وتوفير طعامها. كانت تقضي يومها برفقة زوجها في البحث عن حفاضات وملابس للطفلة، وبالكاد تمكنا من توفير بعضها".

"اسمه دلع"!

وفي غرفةٍ -هي المتبقية من بيتها المهدّم، في حي النصر بمدينة غزة، تسنُد "مريم" (اسم مستعار) ظهرها إلى وسادة، وتمسح عينيها بينما طفلها بالقرب منها يبكي. "لم تنم زوجتي منذ ثلاثة أيام" يقول معتز (اسم مستعار)، بينما يضع في حضنه ابنته الكبرى أسماء (4 سنوات).

تحكي حماة مريم عن "إهمال" كنتها للطفل الجديد (عمره 3 أسابيع)، وتشكك في قدرتها على رعايته، أو رعاية أخته، "في ظل وضعٍ غريبٍ أصابها بعد أسبوعٍ ونصف من الميلاد" تقول.

فقدت مريم أمها وشقيقها شهيدين قبل ستة أشهر، لكن هذا لم يشفع لها من غضب كل من حولها، "فتصرفاتها غريبة! لقد أصيبت بالجنون" تقول الحماة.

يحكي زوجها -الذي يبدي تعاطفًا مع حالها أكثر من أمه- "رحلةٌ مضنية من السؤال والبحث، أخبرني بعدها أخصائي نفسي أن زوجتي مصابة بأعراض اكتئاب ما بعد الولادة. لا أعرف ماذا أفعل الآن؟ ترضع الطفل بالإرغام بعد بكاءٍ مُر، بينما يبقى مع أمي باقي الوقت كله. أدعمها ولكنني أشعر أن الأمر زاد عن حده".

لم يكن معتز يفهم ما يحدث مع زوجته عندما كانت فجأةً تنخرط بالبكاء. يعقب: "أعرف أن كل الظروف حولنا مريرة، لا حفاضات ولا ملابس ولا طعام ولا شعور بالأمان، لكن زوجتي أوصلت لي شعورًا بأنها لا ترغب بالطفل أبدًا. حتى أنني صرت أحيانًا أخاف عليه منها".

تشعر "مريم" بدورها، أن الأفكار لا تغادرها. تقول: "أنا في دوامة. يتملكني شعور بالعجز، وأخشى على أطفالي من قصف مفاجئ. أخشى أن نموت جميعًا هنا بلا رحمة".

لا تقتنع والدة الزوج بفكرة الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة، وتعلق: "هذا اسمه دلع. كيف يعني أترك ابني يموت وأنا بإيدي أساعده؟ إيش يعني اكتئاب؟".

جسامة العبء

ووفق الأخصائية النفسية وسام عبد الله، فإن "اكتئاب ما بعد الولادة، يحدث بين أسبوعين إلى ثمانية أسابيع من الولادة، وعلينا أن نفهم أنه ليس مجرد شعور بالحزن.. هو شعور لا يغادر المريضة بالقلق، وجسامة العبء -خصوصًا في ظل الوضع الذي تعيشه غزة- ونقص الارتباط العاطفي بالطفل، وشعور بالعجز عن توفير متطلباته أو حمايته".

وبالإشارة إلى أن كل الأمهات في قطاع غزة -تحت الإبادة- يشعرن بعدم قدرتهن على حماية أطفالهن، وتوفير احتياجاتهن، "لكن الأمهات اللاتي يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة، يشعرن بالقلق لدرجة تعيقهن عن التمتع أو الفرح بوجود طفل جديد".

وتكمل: "قد يبدأ اكتئاب الولادة بمشاعر قلق تنتاب السيدة قبل الولادة أصلًا. قلق من الولادة نفسها، ورعاية الطفل بعدها، طعامه، نظافته، ملابسه، حفاضاته. الخوف من القصف المستمر"، مشيرةً إلى أن الأمهات اللاتي عشن الفقد لزوجٍ أو أم أو أب أو أخ قد يكُن أكثر عرضة للإصابة بالمرض، نتيجة الوضع النفسي المتردي لهن أصلًا.

وعن أعراض المرض، توضح أنها تشبه أعراض الاكتئاب المعروف: "الشعور بالحزن وهبوط الهمّة، وعدم القدرة على التمتع بالأشياء المبهجة، والتعب أو نقص الطاقة، وضعف التركيز، وانخفاض مستوى احترام الذات والثقة بالنفس، والنوم المتقطع حتى عندما يكون الطفل نائمًا، وتغير الشهية".

وتقول: "قد تشعر الأم بالانعزال عن طفلها أو شريكها، أو حتى قد تنتابها أفكار بإيذاء نفسها أو طفلها"، مشيرةً إلى أن الأم كلما بكرت بالحديث مع شخص ما عن هذه المشاعر، كلما تمكنَت من الحصول على مساعدة مبكرة.

الإنصات وتفهم المشاعر

ودعت الأخصائية النفسية، المحيط القريب من الحوامل في شهورهن الأخيرة، والسيدات اللاتي وضعن مواليدهن، وبدت عليهن علامات الاكتئاب، بضرورة صنع هالةٍ من الدعم حولهن، والاستماع باهتمام إلى كل ما يقلنه، وتفهم مشاعرهن، وعدم التقليل منها، مضيفة: "نعي أن الظروف غير مواتية لتوفير ظروف طبيعية للنفساء أو الحامل، لكن من المفيد جدًا الوصول بشعور الدعم لهما. هذا يجعلهما قادرتين على الصمود، ويوصل لهما شعورًا بالأمان الذي تحتاجانه وبشدة في هذا التوقيت بالذات".

لكن متى يجب على الأم أن تلجأ للتدخل الطبي؟ تجيب عبد الله: "إذا اشتدت الأعراض، أو امتدت لأكثر من أسبوعين. هنا على الشريك أو الأهل أن يتحركوا -بدون تفكير بوصمة المجتمع- فالأهم هنا أن رعاية الأم وصحة مولودها في المقام الأول".

وتزيد: "لا يوجد شخص كامل. كلنا نمر بأوقات لا نستطيع أن نلبي فيها توقعاتنا التي ننتظرها من أنفسنا، لذلك على الأم أن لا تجلد ذاتها في حال لم تستطع القيام بشيء كانت تخطط للقيام به بخصوص مولودها. على الأمهات عمومًا في ظل ظرف الحرب أن يكُنَّ لطيفات مع أنفسهن. هن يفعلن ما باستطاعتهن، لكن الظروف أقوى منا جميعًا، وأي تقصير من قبلهن لا يُحسب. عليهن أن ينظرن إليه على أنه "قوة" تتجلى في المحاولة؛ لصنع شيء من العدم".

وكان المدير العام لوزارة الصحة في قطاع غزة منير البرش، صرح نهاية مارس/ آذار الماضي، أن عدد المواليد الجدد في قطاع غزة انخفض من 50 ألفًا سنويًا إلى 36 ألفًا بسبب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

وقال لبرنامج "العاشرة": "قوات الاحتلال دمرت 25 مستشفى من أصل 38 وأخرجتها عن الخدمة، وأمعن في استهداف الأطفال والنساء، وهذا أدى إلى انخفاض عدد المواليد الجدد في القطاع المحاصر"، مؤكدًا أن السيدات الحوامل والمواليد الجدد لا يجدون الرعاية الصحية.

البوابة 24