غزة/ البوابة 24- مها شهوان:
في زمن الإبادة، لا تُقاس الكارثة فقط بعدد الضحايا، بل بما يُضاف إليهم من مظالم إدارية تتحول إلى موتٍ مؤجل. بعد تسليم ملف التحويلات الطبية في قطاع غزة إلى منظمة الصحة العالمية، تكشّف غياب المعايير الواضحة في اختيار المرضى المؤهلين للسفر والعلاج في الخارج، وهو غياب لا يمكن تبريره في ظل الظروف الحالية، وقد يُعد شكلًا من أشكال الإخلال الجسيم بالعدالة الطبية في سياق الكارثة الإنسانية.
اليوم، وبعد قصف غالبية المستشفيات وخروجها عن الخدمة، عدا عن عدم وفرة الأدوات الطبية لإجراء العمليات المعقدة، وحتى حبة "الأكامول" لتسكين الآلام، ينتظر عشرات الآلاف من الضحايا الحصول على تحويلة. لكن في المقابل، وبعد شهور من سماح الاحتلال لعدد محدود جدا للمرضى بالعلاج في الخارج، تبيّن أن هناك عددًا من المواطنين لا يعانون حتى من "الصداع"، خرجوا إلى مصر ومنها إلى دول عدة، مما استدعى معدة التقرير إلى التقصي للتعرّف على كيفية خروجهم، في الوقت الذي يفارق فيه العشرات من المصابين والمرضى الغزيين الحياة يوميًا لعدم وفرة العلاج لهم.
حالات تعترف "دفعنا وخرجنا" وطبيب يؤكد!
في مارس الماضي، وصل عمر.ن – 28 عامًا – برفقة والدته إلى مصر بتحويلة طبية لاستكمال العلاج، وعند سؤاله عن إصابته، أجاب: أُصبت برصاصة في صدري مع بداية الإبادة على غزة، وتماثلت للشفاء بعدما أخرجوا الرصاصة من صدري."
"كيف وصلت إلى مصر؟"، كان الرد:"بتحويلة طبية دفعتُ مقابلها 3 آلاف دولار، لكن الآن أصبح ثمنها يصل إلى 10 آلاف. وما دفعني إلى ذلك هو أنني شاهدت بعض المعارف يفعلون الأمر نفسه، واعتبرت أنني أستحق الحياة، ولا بد من النجاة، فدفعتُ للخروج برفقة أمي، وسنغادر قريبًا إلى سلطنة عُمان، ومنها إلى تركيا."
لم يتردد عمر في الحديث عن دفعه المال من أجل الخروج، وفي الوقت ذاته يدرك أن هناك مئات المصابين بحاجة ماسة للعلاج في الخارج، لكنه يبرر لنفسه قائلًا:"طالما أن المال متوفر، ومن يدفع يخرج."
فهو، قبل خروجه، تقدم بتعبئة طلب "نموذج 1" – والذي يُعني ضرورة العلاج في الخارج – بخلاف "نموذج 2" الذي يعني إمكانية علاجه داخل غزة.
وعن فحصه من قبل لجان منظمة الصحة العالمية التي تتولى فحص المرضى قبل إخراجهم من قطاع غزة، قال عمر:" تكفي الجروح الموجودة على صدري ليصدقوا حاجتي للعلاج (...) ولستُ وحدي من فعل ذلك."
ما ذكره الناجي من الموت "عمر"، تتقاطع معه شهادة طبيب – طلب عدم ذكر اسمه – وصل إلى مصر قبل عام، حيث أشار إلى أن هناك حالات – بحسب ما يتم تداوله داخل الأوساط الطبية – يُعرض فيها على بعض الأطباء مبالغ مالية من قبل أشخاص يرغبون في السفر رغم عدم وجود حاجة طبية واضحة. ووفق هذه الشهادات، يقوم الطبيب بكتابة تقرير طبي والتوقيع على نموذج رقم "1" الذي يُستخدم للحالات التي تستدعي العلاج في الخارج، مستفيدين من حالة الفوضى العامة في المستشفيات خلال الحرب.
وأشار الطبيب إلى أن مثل هذه المواضيع تُطرح أحيانًا في مجموعات مغلقة على مواقع التواصل بين بعض العاملين في القطاع الطبي، حيث يتم تداول عروض بمقابل مالي مقابل تسهيل الحصول على تحويلة طبية. واعتبر أن هذه التصرفات – التي وصفها بـ"غير الأخلاقية" – تسيء للقطاع الصحي، مؤكدًا أن بعض المتورطين في ذلك خضعوا، بحسب علمه، للمساءلة من قبل الجهات المعنية.
كما أشار الطبيب إلى ما وصفه بحالات سافر فيها عدد من الأطباء إلى كندا، وأمريكا، وتركيا، وألمانيا برفقة عائلاتهم من خلال تحويلات طبية حصلوا عليها، رغم عدم وجود حاجة صحية واضحة لديهم للعلاج في الخارج، بحسب ما نُقل له أو ما تردد في الأوساط الطبية.
ما ذكره الطبيب أعاد إلى الواجهة ما أثاره الصحفي محمد الكحلوت قبل أيام، حين كتب على صفحته: الفيسبوك "الكشف عن سفر عدد من المواطنين من غزة إلى مستشفيات (كاريجي) و(ماير) في فلورنسا – إيطاليا، عبر تنسيقات طبية مزورة، رغم أنهم غير مرضى، مقابل مبالغ وصلت إلى 8 آلاف دولار للعائلة."
وأكمل: "بعد فحوصات طبية، تبيّن عدم حاجتهم للعلاج، فيما يتنزهون الآن في إيطاليا، بينما يموت مرضى السرطان والأطفال وجرحى الإبادة في غزة على أسرّة المستشفيات، دون فرصة للعلاج أو السفر. وقد أثار ذلك شكوكًا واسعة في الأوساط المحلية، وسط حديث عن احتمال وجود تواطؤ من موظفين في وزارة الصحة بغزة أو منظمة الصحة العالمية، وهو ما يستدعي تدقيقًا شفافًا من الجهات المعنية."
حالات تخالف معايير وزارة الصحة
وسُجل، وفق وزارة الصحة بغزة، أكثر من 12 ألف مريض على قوائم الانتظار، وقد أنهوا كافة الإجراءات المتعلقة بالحصول على تحويل علاجي، بينهم 5100 حالة طارئة مهددة بالموت إن لم تتلقَ العلاج، و450 مريضا في نزاعهم الأخير ويحتاجون إلى إجلاء عاجل قد ينقذهم من الموت.
وكشف مدير مركز المعلومات الصحية في وزارة الصحة في غزة زاهر الوحيدي في تصريح صحفي عبر "الجزيرة نت" بتاريخ 22 أبريل 2025، أن نحو 1100 مريض غادروا قطاع غزة من معبر رفح لتلقي العلاج خلال فترة سريان اتفاق وقف إطلاق النار، لكن منذ استئناف الإبادة على غزة في 18مارس/آذار الماضي وإغلاق معبر رفح بات معبر كرم أبو سالم الخاضع للسيطرة الإسرائيلية المنفذ الوحيد، ولم يغادر عبره سوى نحو 100 مريض ومرافقيهم.
ووفق ورقة بحثية أعدها "إئتلاف أمان" في تموز/يوليو 2024 حول دور وزارة الصحة الفلسطينية في ملف العلاج في الخارج، وعملية التحويلات الطبية للجرحى والمرضى في قطاع غزة، ذكر أن معايير إجراءات التحويل للجرحى والمرضى تتم حسب تعميم صادر عن وزارة الصحة الفلسطينية بتاريخ 17 فبراير 2024 بخصوص التحويلات الطبية للجرحى والمرضى، الذيم لا يمكن إجراء عمليات لهم/لهن في مستشفيات غزة المتاحة، فإن الوزارة حددت ثلاث فئات كالآتي:
- الإصابات التي تحتاج إلى تدخل جراحي لإنقاذ الحياة.
- حالات الأورام المثبتة بالتحاليل والتصوير.
- الحالات التي تحتاج إلى علاج، وبدونه يمكن أن يؤدي إلى الوفاة.
وخلافا للفئة الثالثة حكاية "إبراهيم" – 56 عاما – الذي وصل إلى مصر برفقة زوجته واثنين من أبنائه، لا يعاني من شيء، فقط أعراض كوجع في الرأس وهزال في الجسد بسبب الجوع.
خرج من قطاع غزة قبل منتصف مارس العام الجاري من خلال تحويلة طبية كـ "مريض سرطان" كما يقول، موضحًا – بنبرة تهكمية – أنه أخبر الطبيب بأعراضه العامة، ودفع مبلغًا من المال وصل إلى 4 آلاف دولار، فحصل على تحويلة طبية أوصى فيها الطبيب، بحسب روايته، بالحاجة إلى العلاج كونه يعاني السرطان.
ويضيف: حين وصلت لمصر أجريت الفحوص اللازمة ".." النتيجة لا أعاني المرض، واليوم انتظر الحصول على تأشيرة أوروبية من ابنتي التي تعيش في بلجيكا من أجل الوصول هناك وعمل لجوء.
وفيما يتعلق بمعايير التحويلات الطبية وزارة الصحة كما ذكر الدكتور محمد زقوت خلال الورقة البحثية لإئتلاف أمان، أنه يتم تشكيل لجان طبية متخصصة للتحويلات الطبية في كل مستشفى، ثم تقوم كل لجنة باعداد كشوف التحويلات للجرحى والمرضى وإرسالها إلى لجنة التحويلات في الوزارة.
وأضاف زقوت:"وبعدها تقوم لجنة التحويلات في الوزارة بمراجعة الكشوف لإرسالها إلى الجانب المصري الذي بدوره يرسلها إلى الإسرائيليين حيث يتم انتظار أخذ الموافقة على المرضى والمرافقين، وبعدها يتم إرسالها إلى وزارة الصحة التي بدورها تقوم بنشر تلك القوائم على صفحاتها الالكترونية المتاحة والاتصال بالمرضى.
هذه المعايير طُبّقت على نحو 100 شخص، ولا يزال آلاف المرضى والجرحى ينتظرون طوق النجاة للعلاج في الخارج.
هنا حكاية جديدة للشابة سمية – 26 عامًا، خرجت من القطاع ليس بسبب مرض يستدعي تحويلة طبية، بل لتصل إلى خطيبها في الإمارات، بعدما غادرت برفقة جارتها الخمسينية التي تعاني من الضغط والسكر، عبر تحويلة طبية.
اشترطت الجارة على سمية، لإضافتها كمرافقة، أن تدفع لها 5 آلاف دولار، فوافقت سمية وخطيبها على ذلك كي تصل إليه.
كانت الحُجة لتبرير مرافقتها لجارتها أن أبناء الحاجة مصابون ولا يستطيعون الخروج برفقتها أو مساعدتها، وزادت فرصتها لأنها درست التمريض، فصُوّرت على أنها مرافقة "ممرضة" تسهل عليها رعاية المريضة.
وذكرت سمية أنها سلّمت جارتها الحاصلة على التحويلة الطبية ألفي دولار قبل السفر، وبمجرد ختم جواز سفرها ودخولها مصر، دفعت لها بقية المبلغ، وبقيت تصرف عليها مدة شهرين في مصر حتى تمكنت من الوصول إلى خطيبها.
ولدى سؤالها: "لماذا فعلتِ ذلك؟"، ردّت سمية :لم يوجد أمامي أي حل، أدرك أن هناك الكثيرين ممّن يحتاجون للسفر للعلاج، لكن في حال لم أكن أنا من ستصحبه جارتي، ستجد العشرات من الزوجات العالقات يطلبن مرافقتها في رحلة العلاج."
توصيات: تحديد معايير أكثر دقة للحالات التي تحتاج للسفر والابتعاد عن المعايير العامة
في ظل هذا الواقع وحالة الفوضى، المطلوب هو استعادة العدالة في آلية اختيار المرضى للعلاج في الخارج، وفرض الشفافية، وإعادة الثقة لمن فقدوا الأمل في أبسط حقوقهم: الحق في الحياة.
يؤكد وائل بعلوشة مدير المكتب الإقليمي بغزة لإئتلاف أمان، أن وزارة الصحة بغزة لا تمتلك خطة طوارئ للعمل في ملف التحويلات في الخارج، لاسيما أن خطط الطوارئ لوزارة الصحة التي تم إعدادها بعد جائحة كورونا، لم تكن ضمن سيناريوهاتها، وإفتراضاتها للمخاطر هذا الدمار الهائل والشامل للمنظومة الصحية، لذلك ظهر الخلل في التعامل مع العديد من الملفات الصحية، منها العلاج في الخارج، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن ممارسات الاحتلال الهادفة إلى القضاء على المنظومة الصحية تشكل عائقا أساسيا أمام قدرة وزارة الصحة وفعاليتها في ملف تقديم الخدمات الصحية للجرحى والمرضى.
ويرى بعلوشة أن على السلطة الوطنية تفعيل دور دائرة العلاج في الخارج برام الله، من أجل ضمان ممارسة دورها في الضغط من خلال قنوات السلطة لزيادة أعداد الجرحى والمرضى المسموح لهم بالسفل، وحل الإشكاليات المتعقلة بمنع أعداد كبيرة منهم من السفر، داعيا إلى زيادة مستويات التنسيق مع وزارة الصحة في غزة وتحسينها، لاسيما لجنة العلاج في الخارج، من أجل حل الإشكاليات العالقة التي لاتسطيع الوزارة في غزة حلها.
وعلى مستوى الفعالية والشفافية، يؤكد بعلوشة أنه من الضروري تحديد معايير أكثر دقة للحالات التي تحتاج الى السفر والابتعاد عن المعايير العامة.
وعن تأثير حالة الفوضى التي يحاول الاحتلال تثبيتها في قطاع غزة للتأثير على مناحي الحياة كافة، ذكر بعلوشة أن حالة الفوضى القائمة تسهم في تغييب الشفافية بشكل واضح، إذ تُضعف من وضوح آليات اتخاذ القرار وتفتح المجال أمام تضارب المعلومات. كما تُعمّق غياب الرقابة المؤسسية، ما يؤدي إلى صعوبة تتبع مسار التحويلات وضمان العدالة في توزيعها.
وأكد أن الاحتلال الإسرائيلي يتحمل المسؤولية الأكبر في هذه الحالة المرتبكة، إذ يفرض قيودًا صارمة تمنع المرضى والجرحى من التنقّل وفق النظام السابق، كما يكرّس حالة الغموض من خلال تحكمه المباشر بمرور الحالات، وهو ما يعقّد إدارة الملف.
ولفت إلى أنه يُضاف إلى ذلك تقصير الجهات الدولية المسؤولة في نشر تقارير كافية، ما يخلق بيئة من عدم الفهم ويعزز الشكوك حول عدالة إدارة هذا الملف الإنساني.
فعليًا، لم يعد ملف التحويلات الطبية يُدار كحق صحي وإنساني، بل تحوّل إلى ورقة نجاة تُمنح للبعض، حتى في الحالات التي يمكن علاجها داخل القطاع، بينما يُحرم منها مستحقون يعانون أوضاعًا صحية حرجة. وما يزيد الأمر ألمًا هو ما يشوب هذا الملف – بحسب شهادات وروايات متعددة – من تجاوزات واضحة، حيث وردت معلومات عن حالات سافر فيها مرافقون لا تظهر حاجة طبية فعلية لوجودهم، بل مقابل مبالغ مالية، وفي بعض الأحيان دون وجود أي صلة قرابة بالمريض، ما يُضعف الثقة في عدالة إدارة هذا الملف الحساس.