العالقون تحت الأنقاض.. "شهداء" حتى إشعار آخر!

العالقون تحت الأنقاض
العالقون تحت الأنقاض

غزة/ البوابة 24- حلا أبو عيشة:

أمام بيت عائلتها المدمر، تجلس تالا سمور وتبكي. تركز نظرها على الأريكة التي كانت تتمدد عليها قبل أن يسقط ركام البيت فوق رأسها الصغير وتنجو بأعجوبة.

تقول: "كنت نائمة، فجأةً رأيت ضوءًا أحمرًا.. لقد قصفت طائرات الاحتلال منزل جيراننا، وحولت الدنيا إلى شعلة لهب".

لا يغيب ذلك المشهد عن ذاكرة تالا (13 عامًا)، هي لا تعرف كيف نفضت عن نفسها الركام الذي سدّ أنفها وفمها، وغطى جسدها، ونهضت بعدها لتجري في الشارع وتصرخ. تقول: "وقفت فجأة، ونظرت حولي. كان كل شي يحترق. بيت جيراننا هُدم تمامًا، والناس ينادون بأصوات عالية: هل هناك أحد؟ هل يسمعنا أحد؟".

حوالي 4 ساعات، حاول الدفاع المدني -وفق شهادة الفتاة- رفع الأنقاض عن أحياءٍ يتنفسون، "لكن كل الأصوات سكتت".

تبكي الطفلة بحرقة، وتتذكر ابنة جيرانها وصديقتها المقربة. تقول: "لم يستطع أحد إنقاذها. نبشوا الأرض بأيديهم، بينما كانوا يضيئون لبعضهم بمصابيح الهواتف! لم يستطيعوا فعل شيء من أجلها فقُتلت خنقًا".

مشاعر تالا اليوم متضاربة. تقول: "لو أنني قتلت بنفس الصاروخ لكان أهون علي مما أعيشه اليوم".

في مساحةٍ أخرى، لا تسعف صاحبتها الذاكرة، تجلس ريم البلّي. تبتسم لأي طفلٍ يمرُّ بالقرب، وترى فيه "صبا"، شقيقتها الصغرى التي رأتها آخر مرةٍ قبل أن يتحوّل البيت إلى ركامٍ وتعيش هي تحته -ناجيةً وحيدة- 5 أيام بلياليها!

السابع والعشرون من رمضان الذي فات. كانت ريم تنتظر عيدًا جديدًا على أمل "هدنة" برفقة أمها وأبيها المحامي حسام، في بيتهم بمدينة بيت لاهيا، شمالي قطاع غزة. لحظاتٌ مرّت لا تعرف كيف تصفها: "توقف عندها الزمن. تجمّد العقل. صابتني مثل صدمة، وصرت مش عارفة أنا في اليوم ولا اللي صار معي صار زمان؟".

وتتابع ابنة الـ (14 عامًا) بحرقة: "كنت أرى الأنقاض، وأعرف أن هناك أناسًا يعلقون تحتها لساعات قبل أن يصل إليهم الدفاع المدني، لكنني لم أتخيل أن أجرب ذلك أبدًا (..) الشعور مخيف، وقاتل. يشبه الموت، لكنك تتنفس"!

خمسة أيامٍ قضتها ريم في فسحةٍ من الحياة وسط موتٍ قاتم، تشرب الماء من زجاجةٍ كانت قربها، وتتحرك بصعوبة. "كأنها مقبرة. لم أسمع صوت أحد. ناديتُ كثيرًا. لم يسمعني أحد" تعقب.

تخبرنا أنها أصيبت بصممٍ لحظي، "لم أعد أسمع شيئًا. لكن السمع عاد إلي بالتدريج"، ثم أضافت بينما كانت تغيب في عالمٍ آخر: "خرجتُ ومشيتُ نحو بيت جدي، ثم إلى مكتب أبي". لا تدري إن كانت تحكي ما حدث فعلًا أم أنها عاشت أحلام يقظة خلال ساعات مكوثها تحت الحجارة.

عاشت ريم مصابةً، في قلبها وروحها وجسدها خمسة أيام! تجثم فوق صدرها الحجارة والذكريات. هكذا حتى خرجت -كما تقول- خرجت وحدها ومشت في الشارع، فتعرف إليها بعض الأقارب وأخذوها ليعتنوا بها.

عرفت الفتاة أن والديها رحلا، وأن صبا الشقيّة صارت روحًا تراقبها من السماء وحسب. تبحث عنها اليوم بين الوجوه وتبكي كلما تذكّرتها بطقمٍ جميلٍ "لا تذكر من اشتراه، والدتها أم والدها؟ وتبكي كلما رأت واحدًا يشبهه على حبل غسيلٍ أو على جسد طفلةٍ تباغتها ببسمةٍ، فتعود بها إلى تاريخ الحياة حين كان لها أهلٌ وسند.

وفي ظل المعاناة الجسدية والنفسية التي يعيشها العالقون تحت الأنقاض -ويقضي عدد كبير منهم نتيجة طول وقت الانتظار وضعف إمكانيات فرق الإنقاذ- يتحدث جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة، عن احتمال توقف خدمات الإسعاف والبلديات والدفاع المدني وغيرها، مما يُنذر بحدوث كارثة، ويُهدد حياة آلاف المواطنين والنازحين في آنٍ معًا

وقال المتحدث باسم الجهاز، محمود بصل، في تصريحات صحفية إن "نفاد الوقود أدى إلى توقف ثماني مركبات للدفاع المدني، من أصل 12 مركبة في جنوبي القطاع".

وفي الوقت الذي تستمر فيه جرائم الاحتلال على الأرض داخل قطاع غزة، بقصف المنازل وخيام النازحين، وتدمير البنية التحية، ومقومات الحياة كلها، يجد جهاز الدفاع المدني نفسه عاجزًا عن تقديم خدماته بالشكل الصحيح، نظرًا لاستهداف طواقمه المتعمد في مناطق القصف، ولقلة الأجهزة والمعدات اللازمة لرفع الأنقاض، وتسهيل الوصول إلى العالقين تحتها.

وبحسب ما قال بصل: "وجّهنا العديد من المناشدات للمنظمات الدولية، من أجل التدخل الفوري لتوفير كل ما يلزم الدفاع المدني، كي يستطيع ممارسة مهامه على أكمل وجه"، منبهًا إلى وجود عشرات آلاف المواطنين تحت أنقاض المنازل المدمرة منذ أشهر طويلة، لم تتمكن الطواقم من انتشالهم.

ويتابع: "كل المناشدات التي أرسلنا بها إلى العالم، والمؤسسات الدولية لم تنفع. هناك فيتو أمريكي لتدمير كل شيء في قطاع غزة".

وخلال انتشال الدفاع المدني بغزة، شهداء، من تحت الأنقاض، ومن بعض الخيام المستهدفة، رصدت الطواقم جثامين مقطعة ومتفحمة ومنتفخة بشكل كبير، ويظهر عليها علامات حروق شديدة، "وهذا يؤكد استخدام الاحتلال أسلحة محرمة دوليًا، بعضها أدى إلى تبخر جثامين شهداء بشكل كامل نتيجة درجة الحرارة العالية جداً، التي تنجم عن انفجارها" يكمل بصل.

ولا ينسى العالم، مشهدًا انتشر بصورة واسعة، للمسعف الفلسطيني نوح الشغنوبي، الذي حمل روحه على كفه، وعاد لإنقاذ عالق استنجد به، كان عالقًا بين الركام في مدرسة دار الأرقم شرقي قطاع غزة، رغم تحذير الاحتلال بمعاودة القصف مرة أخرى وإمهال الموجودين دقائق للخروج.

عاد نوح مناديًا الشاب: "سأبقى معك، إما أن نخرج معًا، أو أن نستشهد سويًا"، وقد شاركه زملاؤه في الحفر بأيديهم، وبعض المعدات البسيطة، ليتمكنوا من تحرير ساقه العالقة بين حديد عامود البناء الصلب.

يعود بصل للتأكيد أن قطاع غزة يعاني من انهيار شبه كامل في المنظومة الطبّية والإنسانية؛ نتيجة العدوان الإسرائيلي المتواصل، ملفتًا إلى أن فرق الإنقاذ تعمل بإمكانيات شبه معدومة، "ونحن هنا نطالب المجتمع الدولي بالضغط على دولة الاحتلال لوقف الحرب، وفتح المعابر، وإدخال المعدات الطبية والمساعدات الإغاثية".

البوابة 24