الفوضى الخلاقة وإعادة هندسة الواقع الأمني والديمغرافي في قطاع غزة!

بقلم:د. منصور أبو كريّم

الفوضى هي المولود الأوّل للحروب والكوارث، ولا سيّما أنّها اختلال سريع ومباغت لمنظومةِ الشعوب الروتينيّةِ، وما تقوم عليه من تهديد لحاجات الفرد الأساسيّة، وقد أدت الفوضى في الحالة الفلسطينيّة إلى "إبادة مطْلَقة للحاجات". وعلى الرغم من أنّ الحافز الإنسانيّ على الروتين يدفع إلى تطويع الفوضى، فإنّ اختلاقها وتوليدها باستمرار يجعلان وجودها جزءًا من إستراتيجيات المشهد.

تُظهر موجة واسعة من الانفلات الأمنيّ المتصاعد في قِطاع غزّة بعد أن فقدت حركة "حماس" سيطرتها على شوارع القِطاع، وهي سيطرة لَطالَما تغنَّت بها الحركة خلال سبعة عشر (17) عامًا حكمتْ فيها القِطاع، حتّى خلال الحروب المتكرّرة التي شنّتها إسرائيل. وبخلاف أيّ حرب سابقة، يواجه الغزّيّون حاليًّا، في مناطق واسعة من القِطاع، تصاعدًا في انتشار الجريمة التي شملت عمليّات قتل وسطو وسرقة ونهب وفوضى، فانتشار مظاهر الفوضى في مناطق قطاع غزة، وانهيار منظومة القيم لم يكن وليد اللحظة؛ بل هو نتاج سنوات الانقسام، التي ساهمت فيها زيادة معدلات الفقر والبطالة، وتراجع الناتج القومي في القطاع، مما شكل ضغوط اقتصادية واجتماعية ونفسية عانت منها كل فئات المجتمع، بدون قدرة حقيقية على مواجهة تداعيات الانقسام الفلسطيني من قبل القوى السياسية. فعندما تعلو الحزبية على الوطن، والمكاسب الشخصية على المصالح العامة، ويدفن الجميع رأسه في التراب "كالأنغام" لمواجهة الانقسام وسلخ غزة عن باقي الأراضي الفلسطيني؛ لا تتوقع أن يسود الاحترام والتكافل بين المواطنين!

الآن وبعد زيادة معدلات الفوضى في الشارع الغزي، بعد انكفاء سلطة حركة حماس وانحصارها نتيجة الضربات الإسرائيلية، وسيطرة المجموعات المسلحة المحسوبة على العشائر والعائلات على المساعدات وبيعها في الأسواق بأسعار مرتفعة، وغياب الدور الفاعل من القوى السياسية التقليدية في المجتمع الفلسطيني؛ تكون هذه القوى قد وصلت إلى حالة من العجز السياسي التام عن القيام بدورها المنوط بها في حماية الجبهة الداخلية الفلسطينية وقت الأزمات والحروب.

الجميع وقف يتفرج على ما يجري من فوضى عامة، سوف تقودنا إلى مزيد من التفكك والانحلال للنسيج الاجتماعي والبناء الاقتصادي والسياسي، لقد تركت القوى السياسية المواطن الفلسطيني يواجه مصيره بمفرده، بدون أي دور فاعل في معاجلة الأزمة، أو المأزق الحالي، لقدت عجزت القوى السياسية على ملأ الفراغ، وتشكيل لجان أهلية لحماية الجبهة الداخلية، فتمسك حركة حماس بالحكم في ظل الملاحقة الاسرائيلية وخشيتها من فكرة البديل، أنتج كل هذه الفوضى واللصوصية والعصابات الإجرامية التي تتماهى مع المصالح والمساعي الاسرائيلية في إعادة هندسة الواقع الأمني والديمغرافي في القطاع!

فالحركة لم تدرك بعد خطورة ما تخطط له إسرائيل من إعادة هندسة الواقع السياسي والأمني والديمغرافي في القطاع وكامل الأراضي الفلسطينية انطلاقة من فكرة تعميم الفوضى، وجعلها كحالة عامة، تقودنا إلى واقع جديد، وفق ما ترغب به حكومة الاحتلال، وما صرح به وزير المالية الإسرائيلي (بتسلإيل سموتريش) قبل أيام قليلة من تهديده بالخروج من الحكومة لأنها سمحت للعشائر بأمين المساعدات، لهو أكبر دليل على استخدام الفوضى والاضطرابات الأمنية لدفع المواطنين للخروج من غزة بحثًا عن الخلاص الفردي!

الفوضى التي باتت تضرب قِطاع غزّة طولًا وعرضًا، وتنغّص على السكّان حياتهم، غَدَتْ جزءًا أساسيًّا من الإستراتيجيّة الإسرائيليّة التي رأت فيها مجالًا لخلق واقع جديد بعيدًا عن حكم حركة حماس أو السلطة الفلسطينيّة. كما قال نتنياهو: "لا فَتْحِسْتان ولا حَماسْتان". الجنرال "تامير هايمان"، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة ("أمان")، أكّد أنّه لم يتبقَّ أمام الاحتلال سوى حلَّيْن واقعيَّيْن: أوّلهما الحكم العسكريّ، وهي خطّة فعّالة من الناحية التكتيكيّة، لكنّها سيّئة جدًّا من وجهة نظر سياسيّة وإستراتيجيّة، فضلًا عن ثمنها الباهظ ماليًّا وعسكريًّا. ثانيهما الفوضى المتعمَّدة، باستمرار الوضع القائم عمليًّا". ونشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرًا للصحفيَّيْن آدم راسـﭼـون وآرون بوكسرمان من القدس، يقومان على أكثر من 20 مقابلة مع مسؤولين وعمّال إغاثة ورجال أعمال وسكّان غزّة، قالا فيه إنّ العصابات تملأ الفراغ الذي خلّفه الاحتلال الإسرائيليّ في بعض أجزاء جنوب غزّة، وتختطف المساعدات التي يحتاج إليها السكّان الفلسطينيّون احتياجًا شديدًا.

ليس هناك عاقل ينظر للفوضى أو يدفع عنها، لكن تحليل الواقع يتطلب منا التجرد عن الانتماءات السياسية والحزبية الضيقة، وضع اليد على مواطن الخلل والقصور، منذ البداية الأزمة طالب الكثيرون القوى السياسية بتحمل مسؤوليتها الوطنية في حماية الجبهة الداخلية، لكن للأسف تقاعس هذه الفصائل وخشيتها من الحرب الأهلية أو من غضب الحاكم، أو استفادتها من استمرار الانقسام، مثل بعض القوى التي ربطت واقعها ومستقبلها السياسي بحلف محلي وإقليمي، حل دون القيام بهذا الدور الوطني!

مرة أخرى ما يمر به القطاع في الوقت الحالي من فوضى خلاقة، تهدف إلى تدمير البناء الاجتماعي والسياسي القائم بغض النظر عن تبعية هذا البناء، وخلق بناء اجتماعي وأمني جديد وفق الرؤية الاسرائيلية، ودفع الكتلة السكانية للهجرة الطوعية نظرًا لانعدام السلم الأهلي ومقومات الحياة، لذلك يعمل الاحتلال على تعزيز المليشيات العائلية والعصابات الإجرامية كأداة من أدوات تحقيق أهداف الحرب

البوابة 24