ما بين النقد الورقي والرقمي.. غزة في قبضة أزمة نقدية شاملة

السيولة في غزة
السيولة في غزة

غزة/ البوابة 24-وردة الدريملي

في الوقت الذي تُقاس فيه الأزمات الاقتصادية عالميًا بمؤشرات الأسواق وأسعار العملات، تعيش غزة مشهدًا مختلفًا تمامًا، حيث يُقاس الوضع بثمن رغيف الخبز، وصرخة طفل جائع، وبكاء أم لا تملك سوى فكة مهترئة لا يقبلها أحد.

وسط حصار خانق وتداعيات حرب مستمرة، تفاقمت أزمة السيولة النقدية لتتحول من تحدٍ اقتصادي إلى معاناة يومية تطال تفاصيل حياة الناس، من القدرة على الشراء، إلى كرامة التصريف، وحتى الوصول إلى الدواء والغذاء.

التقرير التالي يرصد، من خلال شهادات حية ومعلومات موثقة، ملامح هذه الأزمة المركّبة، ويكشف كيف أُفرغت الجيوب من النقد، وأُنهكت الأسواق بفعل الاحتكار، وتهاوت الثقة في العملة الورقية، في ظل بنية مصرفية مشلولة، ورقابة غائبة، وأمل يتضاءل يومًا بعد يوم.

تقول منال محمد (50 عامًا): "يقضي ابني (17 عاماً) معظم يومه متنقلًا بين المحال، يبحث عن سلعة بسعرٍ معقول أو فكةٍ مقبولة، وغالبًا ما يعود خالي اليدين، أو صنف واحد؛ فإما أنّ الأسعار مرتفعة، أو أنّ العملة التي نحملها مرفوضة، أو ببساطة لا يملك البائع فكة".

وتتابع بنبرةٍ تحمل مزيجًا من الحزن والرضا: "أعيش على مبلغٍ بسيط من مؤخرِ صداق ابنتي بعد طلاقها، (ألف دينار)، كنت قد ادخرته لها كضمان لحياتها، لكنه تحوّل إلى مصدر رزق لنا في هذه الظروف الصعبة. ابنتي لم تتردد لحظة في تقديمه لي، وتقول دائمًا: 'اصرفي كما تشائين، لا تحتاجين لأحد، المهم أن نأكل ونعيش'."

وتضيف بأسى: "رغم بساطته، أصبح هذا المبلغ هو السند الوحيد لنا، خاصة بعدما خسر زوجي كل ما ادخره من عمله داخل الأراضي المحتلة، أثناء محاولته تفعيل التطبيق الإلكتروني لسحب أمواله، كانت خسارة غير متوقعة، ومنذ ذلك الحين تحمّلت المسؤولية كاملة وحدي."

وتختتم حديثها: "أبذل جهدي لإدارة حياتنا بأقل الإمكانيات الممكنة، لأوفر لأبنائي ولو لقمة عيش بسيطة، في واقع يزداد قسوة يومًا بعد يوم، وأزمات لا تنتهي."

أما رشا توفيق (35 عامًا)، فتروي معاناة مزدوجة عاشتها في غزة: "منذ أن دُمّر منزلنا بالكامل خلال القصف، لم نعد نملك سوى ما نحمله بأيدينا، نزحنا إلى مكانٍ مؤقت لا يشبه بيتنا في شيء، لا في الأمان ولا في الراحة، ومع كل هذا، وجدت نفسي مضطرةً لبيع ما تبقى من ذهبي فقط لأستطيع تلبية أبسط احتياجات أسرتي."

وتتابع: "بدأت العمولة على السحب النقدي بنسبة 15%، ثم أخذت ترتفع تدريجيًا حتى بلغت 50%. تخيلي أن يخسر الإنسان نصف راتبه لمجرد الحصول على القليل من النقود! هذه ليست حياة، بل محاولة يائسة للبقاء."

ورغم اعتمادها على تطبيقات الدفع الإلكترونية، لم تكن هذه الوسائل ملاذًا آمنًا كما ظنت، وتضيف: "التطبيق ليس حلًا دائمًا، فالاتصال بالإنترنت متقطع، والكثير من التجار يرفضون التعامل به. وإن قبلوا، يرفعون الأسعار بنسبة تصل إلى 40%، بحجة العمولة. وحتى العملات الورقية نفسها لم تعد مقبولة. فئة العشرين شيكل مثلاً، وإن كانت جديدة، تُرفض بحجج واهية."

اقرأ أيضاً:

سرقة حسابات وسط فوضى الإبادة تهز "الثقة" بالبنوك الفلسطينية 
تقييد التحويلات البنكية.. أزمةٌ "إنسانية" تضرب التعاملات المالية بغزة

وتكمل: "حصلت على فرصة عمل مؤقتة ضمن برنامج بطالة خلال الحرب. ظننت أنها قد تُنقذنا ولو مؤقتًا، لكنها لم تحدث فرقًا يُذكر، بعد سداد الديون ودفع العمولة، لم يتبقَّ شيء. اضطررت بعدها لبيع حاجياتي المنزلية، قطعةً تلو الأخرى، فقط لأوفر لأطفالي لقمة عيش في ظل واقع يزداد ضيقًا وقسوة يومًا بعد آخر."

وتختم رشا بعبارة تختصر الحكاية كلها: "خسرنا البيت، وخسرنا الأمان، وخسرنا حتى قيمة النقود التي نحملها... لكننا لا نزال نحاول أن نبقى."

آلاء أحمد (37 عامًا) تعاني أيضًا من أزمة السيولة، خاصة كونها بحاجة إلى طعام خاص لا يحتوي على البروتين. تقول: "أضطر إلى سحب سيولة بعمولة، وإعطائي أموال صالحة للتداول، كان آخرها بنسبة 35%، لكن الآن أجد صعوبة في تصريف الأموال التي بحوزتي وخاصة فئة 20 شيكل."

وتوضح: "أشعر بحرج شديد مع البائعين حينما أقدم لهم فئة 20 شيكل، رغم أنها جديدة، يتحججون بـ'بتمشيش' أو، 'معيش فكة'. وأحاول من بائع لبائع حتى أتصرف بها. ومنذ بداية الحرب وأنا أتعامل مع أحد الصرافين، بدءًا من 5٪ حتى 35٪، ومع ارتفاع نسبة العمولة أصبحت أتعامل بالتطبيق، رغم أن الأمر مزعج جدًا، والمبلغ النهائي يكون مختلفًا عن سعر السوق".

معدة التقرير توجهت إلى الصراف الذي تتعامل معه آلاء، فاعتذر وقال: "لا نتعامل بقصة السيولة"، مشيرًا إلى لوحة معلقة كتب عليها: "لا يتوفر لدينا سحب كاش، تطبيق، محفظة، صراف، سيولة بكافة أشكالها، وصرف أكواد"، رغم أن ذلك كان عمله خلال الحرب.

حاولت معدة التقرير الوصول إلى صراف آخر، بعدما أخبرها أحد الأصدقاء بإحدى مكاتب الصرافة الذين يعملون في مجال تكييش الأموال مقابل نسبة عمولة، لكنه علق: "صعب جدًا الحديث بموضوع أزمة السيولة، خاصة مع ارتفاع نسبة العمولة التي وصلت إلى 50%".

ورقة بحثية صادرة عن ائتلاف "أمان" في أكتوبر 2024، بعنوان "الرقابة والمساءلة على شركات الصرافة في غزة في ظل حرب الإبادة"، أوضحت أن الاحتلال الإسرائيلي يتحمل مسؤولية تقويض عمل المؤسسات المالية من خلال منع دخول السيولة النقدية ومعدات الصيانة للصرافات، وتدمير مقرات البنوك، ما أدى إلى بقاء فرع مصرفي واحد وصراف آلي واحد فقط يعمل في قطاع غزة.

وتشير الورقة إلى أن نقص السيولة وضعف الرقابة الرسمية أدى إلى انتشار الصرافة العشوائية، حيث استغل بعض التجار الظروف لتحقيق مكاسب غير عادلة مثل التلاعب بأسعار الصرف وفرض عمولات مرتفعة، ورفض العملات الورقية المهترئة، مما زاد من معاناة المواطنين.

في السوق، يؤكد أحد باعة الخضار أن التداول بات محصورًا في فئة واحدة فقط هي فئة 200 شيكل الزرقاء، بينما تُرفض باقي الفئات. ويقول: "المزارعون والتجار يطلبون فقط العملة الزرقاء، ويعيدون أي ورقة فيها خربشة أو مهترئة. وحتى الدفع بالتطبيقات ما زال يُقابل بالرفض من كثيرين".

ويتابع: "الأزمة ألقت بظلالها على السوق، فتراجعت حركة البيع، وتكدست البضائع، وتعقدت عمليات الشراء. بعضهم يشتري العملة الزرقاء بعمولة تصل 45%". ورغم ذلك، يرفض تحميل الزبائن أي فرق إضافي عند الدفع بالتطبيق، مطالبًا بقبول جميع الفئات وتخفيف الأسعار.

ويقول تاجر مواد تموينية: "العملات من فئتي العشرة والعشرين شيكل في حالة مهترئة، والمواطنون يرفضونها، مما أضعف الحركة التجارية وفاقم الركود في الأسواق. أزمة السيولة ليست فقط في نوعية العملة، بل في انعدامها أصلًا، نتيجة توقف مصادر الدخل، وتأخر الرواتب، وفرض الخصومات، ما أضعف القوة الشرائية".

ويتابع: "البضائع أصبحت شحيحة، وتصل عبر قنوات محدودة جدًا. يعتمد التجار الصغار على ما يصل من مساعدات، يبيعها المستفيدون للتجار الكبار، الذين يعيدون بيعها بأسعار مرتفعة. ومع انقطاع الإنترنت، توقفت حركة الشراء، ولم نعد نستطيع استخدام التطبيقات أو التحويلات البنكية بعد إغلاق المعابر".

ويختتم حديثه بالقول: "نحن جزء من الشعب، ونعاني كما يعاني الجميع. لكن الحقيقة أن الأزمة خرجت عن السيطرة. وحده فتح المعابر وتدفق السيولة كفيل بإعادة الحياة للأسواق".

الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر يوضح أن "الأزمة الحالية في قطاع غزة تُعد نتيجة مباشرة للحرب، لكنها لم تبدأ معها"، مشيرًا إلى أن جذور الأزمة تعود لأكثر من عامين، حين بدأت إسرائيل في تقليص إدخال السيولة النقدية إلى القطاع، في انتهاك صريح لبروتوكول باريس الاقتصادي الموقع عام 1994، والذي ينص على التزام إسرائيل بإدخال الكميات النقدية التي تطلبها سلطة النقد الفلسطينية، وإخراج الفائض واستبدال العملات التالفة.

ويضيف: "منذ ذلك الحين، وخصوصًا خلال الحرب، تفاقمت الأزمة حتى وصلت إلى ذروتها، مع فقدان السوق لما يقارب 40% من السيولة المتداولة".
ويتابع: "قبل الحرب، كان يدخل من السيولة النقدية ما يعادل نصف الاحتياج فقط، فعلى سبيل المثال، لو احتاج القطاع 2 مليار شيكل سنويًا، كان يُدخل فعليًا مليار فقط. ورغم ذلك، كانت السوق تتأقلم نسبيًا. أما الآن، فإغلاق البنوك، سواء بسبب الظروف الأمنية أو بشكل متعمد، فتح الباب على مصراعيه للسوق السوداء، التي باتت تتحكم في سوق النقد".

ويحذر من ظاهرة "التكييش" التي ظهرت بنسب خيالية تصل إلى 34%، وقد تزيد أكثر، ما يعني أن المواطن يفقد ما يقارب ثلث أمواله فقط ليحصل على النقد من حسابه البنكي، وهو ما يعتبره أبو قمر "انتهاكًا صارخًا لحقوقه المالية".

ويشرح: "هذا يؤدي إلى تآكل القيمة الحقيقية للعملة؛ فالمئة شيكل فعليًا تصبح قيمتها الشرائية 66 شيكل أو أقل، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وزيادة معدلات التضخم، وسط غياب شبه كامل للسيولة".
ويضيف: "العملات التالفة والمهترئة مثل العشرة شواكل أو الطبعات القديمة، أصبحت غير مقبولة في السوق، ليس بقرار رسمي، بل بقرارات بعض التجار المتنفذين، ما عمق حالة الفوضى النقدية، وحرم الناس من استخدام جزء من مدخراتهم، وأصبح السوق يخضع لقرارات أفراد، لا مؤسسات، ما أفقد المواطن الشعور بالاستقرار المالي".

ويشير إلى أن سلطة النقد لم تُصدر أي بيان تطميني بشأن صلاحية العملات القديمة، ولم تقدم حلولاً خلال فترات التهدئة، واكتفت بفتح البنوك بشكل صوري دون السماح بالسحب أو الإيداع، مما زاد من إحباط الناس.
ويؤكد: "هذا الغياب عن المشهد فاقم من الأزمة، وترك المواطن رهينة لتجار السوق السوداء الذين باتوا يتلاعبون ليس فقط بأسعار الصرف، بل أيضًا بتحديد ما يُقبل أو لا يُقبل من عملات".

ويخلص أبو قمر إلى أن الثقة في البنوك الفلسطينية اليوم على المحك، ومن المتوقع أن يسحب المواطنون أموالهم فور انتهاء الأزمة، خوفًا من تكرار المشهد، ويفضل كثيرون إيداع أموالهم في بنوك خارجية أو الاحتفاظ بها نقدًا.
ويؤكد: "نحن أمام زلزال اقتصادي حقيقي، وما يجري ليس فقط أزمة سيولة، بل هو شكل من أشكال الحرب الاقتصادية الممنهجة، التي تعمّقت بسبب سكوت المؤسسات الرسمية، واحتكار التجار، وتنصل الاحتلال من مسؤولياته القانونية".

وفي ذات السياق، يرى الخبير في قضايا الحوكمة الاقتصادية مؤيد عفانة أن أزمة السيولة النقدية في قطاع غزة تُعد من أخطر تداعيات الحصار والحرب، إذ يعاني السوق من شُح حاد في النقد المتداول، ما يعيق الحركة التجارية ويُضعف القوة الشرائية على نحو غير مسبوق. ويوضح أن السيولة النقدية لا تقتصر على توفر النقود فحسب، بل تشمل كذلك سهولة تحويل الأصول إلى نقد في الأسواق، إضافة إلى قدرة الأفراد والمؤسسات على الوصول إلى مصادر تمويل منتظمة ومستقرة.

وأشار إلى أن الإطار القانوني الفلسطيني يتضمن منظومة متكاملة تنظم القطاع الاقتصادي، بدءًا من قوانين تشجيع الاستثمار، مرورًا بقانون الشركات، وقانون الأوراق المالية، والمواصفات والمقاييس، وضريبة القيمة المضافة، وسلطة النقد، والمصارف، والجمارك، والمعاملات الإلكترونية، وصولًا إلى قانون حماية المستهلك، والغرف التجارية. وعلى الرغم من هذا الأساس القانوني الواسع، فإن ما تحتاجه المرحلة الحالية هو حلول واقعية ومبتكرة تنطلق من هذه القوانين وتتجاوب مع التحديات المتسارعة في الميدان.

وأكد أن معالجة أزمة السيولة لا يمكن أن تظل مرهونة بالتدخلات الطارئة أو التقليدية، بل تتطلب تحولًا استراتيجيًا نحو تبنّي منظومة مالية رقمية resilient resilient، قادرة على الصمود أمام الأزمات، وتعزيز الشمول المالي في المجتمع الفلسطيني، خاصة في المناطق الأكثر تضررًا مثل قطاع غزة. ويرى أن التحول الرقمي يمثل أداة فعالة للتخفيف من حدة الأزمة، عبر توسيع نطاق استخدام وسائل الدفع الإلكتروني، مثل المحافظ الرقمية، ونقاط البيع، والدفع من خلال رموز QR، إضافة إلى تسهيل التحويلات المالية بين الحسابات البنكية والمحافظ الإلكترونية.

وشدد عفانة على ضرورة تشجيع المصارف وشركات الدفع الإلكتروني على التوسع الجغرافي والوصول إلى الشرائح الأقل حظًا، وبناء ثقة المواطنين في التعاملات غير النقدية، باعتبارها بديلاً آمنًا في ظل الندرة الشديدة في الكاش. ويرى أن تبنّي هذه الوسائل ضمن السياسة الاقتصادية الرسمية من شأنه أن يسهّل حركة الأموال، ويخفف من حدة التوتر النقدي، ويقوي البنية المالية المحلية لتكون أكثر قدرة على التكيف والاستمرار في مواجهة الكوارث والحروب.

واستجابة لتوصيات الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان)، وبعد متابعته الحثيثة، فتحت سلطة النقد الفلسطينية باب الشكاوى أمام المواطنين، في خطوة جاءت عقب إصدار أمان ورقة سياسات بعنوان "الرقابة والمساءلة على شركات الصرافة في قطاع غزة في ظل حرب الإبادة". ورغم أن هذه الاستجابة جاءت متأخرة، إلا أنها شكّلت محاولة للتخفيف من معاناة المواطنين في ظل أزمة السيولة المتفاقمة.

البوابة 24