غزة/ البوابة 24- دعاء شاهين:
بين جدران مطبخها المتصدعة في دير البلح وسط قطاع غزة، فتحت وسام الخالدي كيسًا صغيرًا. أذابت محتوياته البيضاء في إبريق الشاي، ثم نظرت إلى أبنائها الخمسة بعينين تقطران مرارة. "شو أعمل، بعرف إنه مش سكر طبيعي، بس ما في بديل. أولادي بدهم حاجة حلوة يشربوها" تقول بصوتٍ خافت.
ما وضعته وسام في إبريق الشاي، لم يكن سكرًا، بل مادة تُعرف بين السكان باسم "سكر اللوز"، وهو مُحلٍّ صناعيٍ ناعم تحوّل إلى بديل قسري بعد أن تجاوز ثمن الكيلو الواحد من السكر الأبيض 600 شيكل (أي نحو 150 دولارًا)، إن وُجد أصلًا.
تضيف: "في ظل الانقطاع المستمر وارتفاع الأسعار، أصبحنا نعتمد على البدائل مجبرين. أشتري غرام السكر الصناعي بـ 25 شيكل، ويكفي لتحلية نحو 4 لترات من الماء".
وتكمل مستنكرة: "صارلنا 5 شهور ما بنشرب شاي ولا بناكل شي حلو، مش بكفي مرارة الحياة؟ السكر صار سلعة مثل الذهب".
"سكرالوز"
منذ بداية الحرب على قطاع غزة، بات العثور على المواد الأساسية حلمًا بعيد المنال. ومع اشتداد أزمة الغذاء، اضطر سكان القطاع لاستخدام محليات صناعية كبديل للسكر، رغم تحذيرات وزارة الصحة من أضرارها. وجدت الأسر نفسها أمام خيارين أحلاهما مر: إما شاي بلا طعم، أو "السكرالوز" بمخاطره غير المعلومة.
وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أوضحت في بيانٍ نشرته قبل عدة أيام، أن ما يُعرف محليًا بـ"سكر اللوز" هو في الواقع مادة تُدعى "السكرلوز " (Sucralose)، لا علاقة لها باللوز، ولا تحتوي على أي قيمة غذائية. وعدت تداولها دون بطاقة تعريف واضحة مخالفة لقانون الصحة العامة، وخطرًا مباشرًا على المواطنين.
ونصحت الوزارة بعدة إرشادات عند شراء المنتجات الغذائية، منها التأكد من وجود بطاقة بيان واضحة للمكونات وتاريخ الإنتاج والانتهاء، وفحص العبوات، والامتناع عن شراء محليات أو أصباغ مجهولة المصدر. كما حذّرت من شراء العصائر الصناعية أو مشروبات الأطفال دون معرفة دقيقة بمكوناتها.
لا يُمتص بالكامل
أما أخصائي التغذية حازم برغوث، فيُعرّف "سكر اللوز" بأنه مُحلٍّ صناعي مشتق من السكر العادي عبر استبدال ذرات الهيدروجين بذرات كلور، ما يجعله أحلى بـ600 مرة من السكر الطبيعي، دون سعرات حرارية. هذا الإغراء البصري والكيميائي دفع كثيرين لاستخدامه، خصوصًا في المشروبات والحلويات.
لكن برغوث يحذر من أن هذا المُحلي لا يُمتص بالكامل، بل يمر عبر الجهاز الهضمي مُتسببًا في تدمير البكتيريا النافعة، ما يضعف المناعة ويزيد من مشاكل الهضم، التي هي أصلًا واسعة الانتشار في غزة بسبب نقص التغذية. ويضيف: "الإقبال عليه أصبح متزايدًا، لكن الاعتماد عليه بشكل عشوائي دون وعي غذائي خيار محفوف بالخطر".
ويشير إلى أن الاستخدام المفرط قد يؤدي إلى خلل في استجابة الجسم للإنسولين، ويزيد من خطر مقاومة الإنسولين، وسوء امتصاص العناصر الغذائية، ومشكلات في الكبد، وحتى أمراض سرطانية على المدى البعيد، ما يُهدد فئات واسعة في القطاع، خاصة الأطفال والحوامل والمرضى.
ورغم أن الجرعة اليومية المقبولة –بحسب المعايير– هي 5 ملغرام لكل كيلوغرام من وزن الجسم، إلا أن ما يُباع في الأسواق المحلية عبارة عن "بودرة بيضاء مجهولة المصدر"، لا يمكن تحديد تركيبتها بدقة.
"بودرة مجهولة المصدر"
في أحد أسواق النصيرات، وقف شاب ينادي بصوتٍ عالٍ: "سكر لوز، حلّي كاستك"، فتجمع الناس حوله. يقول : "إن شحنة سكر لم تدخل غزة منذ شهور، وتحول السكر إلى سلعة في أيدي قلة من التجار"، متابعًا: "الناس لا يستغنون عن السكر، فقررت أن أبيع البديل، والناس يرغبون به".
ويضيف: "صاروا يصنعون شرابًا، ومعجنات، ويحلون الشاي والحليب به. لم يعد أحد قادرًا على شراء السكر الطبيعي، فاتجهوا للسكر الصناعي (..) بكل الأحوال هذه رزقتنا".
لكن هذا "الرزق" الممزوج بالخطر -لا سيما عندما يباع بأكياس بلا تعليمات أو معلومات- يثير القلق بين من باتوا لا يملكون خيارات. صالح السرساوي، نازح يبلغ من العمر 34 عامًا، يعبر عن قلقه من استخدام ما يسمى بـ"سكر اللوز"، خاصة بعد تحذيرات وزارة الصحة. يحاول تقليل الكمية لأطفاله، ويخبرنا: "ابني عمره خمس سنين، يشرب الحليب محلى به إن توفّر، وأنا قلق جدًا، لكن لا توجد بدائل".
في ظل استمرار المجاعة وانعدام الأمن الغذائي، تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 80% من سكان غزة يعتمدون على مساعدات غير منتظمة. في هذا الواقع، لم يعد السكر ضرورة، بل ترفًا. وفي معركة البقاء اليومية، يُجبر الناس على استهلاك ما هو متاح، لا ما هو آمن، حتى لو كان الثمن صحتهم وحياة أبنائهم.