مياه الصرف الصحي تُغرق الخيام.. غزة.. بطنُ الأرض يقذف "الموت" أيضًا!

غزة - شيرين خليفة:

بغضبٍ يمتزج بالعجز، يشير حسين أبو عربية إلى الرمال المبتلة التي تغطي نصف خيمته، وقد تحولت إلى مستنقع صغير من مياه الصرف الصحي. يرفع صوته وكأنّه يحاول اختراق صمم العالم: "منذ نزوحنا لم نجد سوى هذا المكان. أصابني أنا وعائلتي مرض جلدي لا علاج له".

قصة حسين، وهو رب أسرة من ستة أفراد، بدأت حين نزح من جباليا شمالي قطاع غزة قبل شهرين، بعد استئناف الحرب. لم يجد سوى أرضٍ قاحلة بجوار بركة الشيخ رضوان المخصصة لمياه الصرف الصحي. وعلى غرار كثيرين، اضطر أن ينصب خيمته فوق مصرف ملوث، حيث تغرق الخيام كلما فاضت المياه.

يستعيد حسين رحلة نزوحه الطويلة: "بعد عام في دير البلح، عدت لأجد بيتي مدمرًا. وضعت خيمتي بجواره. ومع تجدد الحرب ونزوح الناس من جباليا، كان حي الشيخ رضوان هو الأقرب، لكن المكان مكتظ، فاضطررنا لنصب الخيام هنا".

يشير بيده إلى الأرض المشبعة بالمياه النتنة، ويقول: "كلما غرقت الخيمة نسكب المزيد من الرمال، لكن الذباب ينتشر والرائحة لا تُحتمل. غرق فراشنا، وأصبحنا نعيش في مكرهة صحية، حتى الأمراض الجلدية أصابتنا جميعًا".

يكشف عن ذراع ابنه أنس وساقه المليئة بالبثور والدمامل: "كلنا أصبنا.. أنا، زوجتي، ابنتي وطفلتها. نعاني كحة وحساسية حادة. لم نجد علاجًا؛ الأدوية مفقودة ولا قدرة لنا على شرائها (..) حتى طعامنا الذي نحصل عليه من التكية نأكله وسط هذه الروائح الكريهة".

يستغيث حسين بالمسؤولين: "لم أعد أملك مالًا لإنقاذ عائلتي. فقدت عملي في القصارة منذ بدء الحرب، وصحتي وصحة أطفالي تنهار أمام عيني".

قريبًا من هناك، تفترش السيدة جمالات ريحان (33 عامًا) الأرض بمفارش وأغطية قديمة. لم تستطع شراء خيمة حين نزحت من جباليا إلى حي الشيخ رضوان، فكانت حصتها من النزوح مجرد أغطية تقيها الهواء. لكن الأسوأ كان تسرب مياه الصرف من المدرسة المجاورة المكتظة بالنازحين.

تشير إلى طفلتها ذات الوجه المليء بالحبوب: "أبنائي الخمسة جميعًا أصيبوا بحساسية وأمراض جلدية. مياه الصرف تتسرب إلى فراشنا، فأقضي ساعات بتنظيفه. لا أملك حتى ثمن صابونة. وإن وجدت فهي مقطوعة أو باهظة الثمن".

تشكو من الحر الخانق داخل الخيمة الذي يزيد معاناتها مع الحكة، ومن عجزها عن شراء أي علاج. إصابة قديمة بكسر في ذراعها إثر قصف على منزل مجاور ما زالت تؤلمها، بينما سوء التغذية يمنع جسدها من التعافي.

غير بعيد، في خيمة متسخة مهترئة، تعيش خديجة علوان بجوار مصرف آخر. نزحت من جباليا ولم يكن أمامها سوى هذه البقعة بجوار بركة تجميع المياه. "كانت المياه تفيض داخل الخيمة وتغرق الفراش، نحاول تنشيفها ثم نعود لاستخدامها وهي ملوثة"، تقول.

وتضيف: "زوجي أقام ساترًا من الرمال ليخفف من دخول المياه، لكنه لا يمنعها تمامًا. بعوض وذباب في كل مكان، والجلد امتلأ بالحساسية والبثور. لم نجد علاجًا، ولا نستطيع تنظيف المكان".

في محيط البركة، التي كانت حتى وقت قريب مكبًّا عشوائيًا للنفايات، تتكدس عشرات الخيام، وتغدو الحياة داخلها معركة يومية ضد البعوض والنتن والأمراض. النازحون هناك لم يجدوا خيارًا آخر سوى أرضٍ تحولت إلى مكرهة صحية تهدد حياتهم كل يوم.

تصرخ هذه العائلات، التي أرهقها النزوح والفقر والمرض، بنداء واحد: تدخلوا بسرعة. أنقذوا الأطفال والنساء من هذا الواقع القاسي، وفروا لهم علاجًا لما انتشر على أجسادهم من حبوب وجروح، وابحثوا عن حل جذري لمصارف الصرف الصحي التي صارت تبتلع حياتهم. فالموت هنا لا يأتي فقط من السماء، بل يخرج من باطن الأرض.

البوابة 24