غزة/ البوابة 24- سماح شاهين:
في غزة، لم تعد الآلام الناتجة عن الإصابات والقصف تقتصر على الجروح الظاهرة، بل امتدت إلى لحظات العلاج نفسها، حيث يضطر آلاف المرضى لتحمل عمليات جراحية مؤلمة دون تخدير، في مشهد يختصر قسوة الحصار ونقص الأدوية.
"كانت أصعب اللحظات وأقساها لحظة إجراء عملية جراحية لإخراج الشظايا من قدماي. بسبب شُح مواد التخدير اضطر الأطباء لتنفيذ العملية دون أي مخدر، وأخبروني أن ما تبقى منها مخصص للحالات الحرجة فقط، فلم أجد بُدًا من الموافقة"، بهذه الكلمات المؤلمة يصف ميسرة مقداد تجربته لـ"البوابة 24".
يستعيد ميسرة بصوت متعب: "أُصبت قبل شهرين إثر قصف منزل جيراننا، تطايرت الشظايا علينا، فاستشهدت والدتي وشقيقتي، فيما بقيت أنا أعاني في المستشفى المعمداني أسبوعًا كاملًا دون أن تُجرى لي أي عملية".
ويشير إلى أن المعاناة لا تتوقف عند غياب التخدير، بل تمتد إلى ندرة المسكنات نفسها، حيث يتشارك المرضى ذات الصرخة على أسرّة المستشفيات، خصوصًا في العيادات الخارجية، حيث لا يجد الأطباء سوى القليل لتخفيف الوجع.
ويصف ميسرة كيف كان يعضّ على أسنانه من شدة الألم أثناء إخراج الشظايا، بعدما قرر الأطباء تقسيم العملية على مراحل خوفًا من حدوث مضاعفات قد تصل إلى الوفاة. ويضيف بقلق: "خشيت أن تتسبب العمليات دون تخدير بمضاعفات أو نزيف يطيل شفائي. طلبت على الأقل بنجًا موضعيًا لتخفيف الألم، لكنهم رفضوا وأكدوا أنني سأحصل على مسكن قوي يساعدني على النوم بعد العملية".
وبصوت يختنق بالحزن يختم: "تمنيت أن أكون شهيدًا مع والدتي وشقيقتي بدل أن أعيش هذه المعاناة القاسية. الموت أرحم من أن تمر بكل هذه الجراح دون تخدير. ما يعيشه الجرحى داخل المستشفيات كارثة حقيقية".
أطفال يصرخون من الألم
محمد حجيلة، طفل لم يتجاوز عامًا ونصف، أصيب بحروق من الدرجة الثالثة أثناء استهداف مدرسة مصطفى حافظ في حي الرمال بغزة. والديه يواجهان محنة مضاعفة، إذ تُجرى له تنظيفات يومية للجروح دون أي تخدير، بعدما اعتاد سابقًا على التخدير الموضعي.
تقول والدته لـ"البوابة 24": "حروق محمد ليست بسيطة، خاصة في رأسه. صراخه يسمعه كل المستشفى أثناء تغيير الضمادات. يحتاج للسفر فورًا لاستكمال علاجه".
وتتابع بعين دامعة: "لا أستطيع تحمّل سماع صراخه، فكيف لطفل بهذا العمر أن يحتمل كل هذا الوجع؟ حتى المسكنات صارت نادرة. هو بحاجة إليها لينام بعد كل جلسة تنظيف، فهي بمثابة طوق نجاة يسكّن ألمه ولو قليلًا".
وتخشى الأم أن يفقد طفلها حياته في إحدى جلسات التنظيف أو أن يُصاب بمضاعفات خطيرة: "بحثت بنفسي عن مواد تخدير في الصيدليات، لكن لم أجد شيئًا بفعل إغلاق المعابر. محمد فقد القدرة على المشي بعد إصابته، وكل ما أريده أن يسافر ويتعافى ليعود كما كان قبل الحرب".
وضع يتجاوز حقوق الإنسان
يصف الحكيم أحمد حجازي، المتعاون الدولي في وزارة الصحة، المشهد في غزة بأنه "وحشي وغير إنساني، ويتجاوز كل حقوق الإنسان". ويقول لـ"البوابة 24": "غرف العمليات تعمل 24 ساعة بلا توقف لإنقاذ الأرواح، أما الحالات الأقل خطورة كتثبيت الكسور فتُؤجّل لأسابيع وربما أشهر، بسبب الضغط الهائل ونقص الموارد".
ويؤكد أن المعاناة أشد ما تكون عند الأطفال، إذ يحتاج الكثير من الجرحى إلى غيارات معقدة يجب أن تُجرى تحت التخدير الكامل. لكنه يضيف: "نضطر إلى إجرائها في العيادات الخارجية أو المتنقلة، فنسمع صرخات الصغار قبل الكبار. نحاول إعطاءهم مسكنات لكنها لا تخفف أكثر من 20% من الألم. أما التخدير فلا يمكن استخدامه خارج غرف العمليات لأنه قد يعرّض حياتهم للخطر المباشر".
ويحذر حجازي من أن إجراء الغيارات في أماكن غير مهيأة طبيًا يؤدي إلى التهابات خطيرة، معتبرًا أن الأطباء يواجهون يوميًا معضلة غير إنسانية: إما ترك المريض يتألم أو المخاطرة بحياته.
عجز كارثي في أصناف التخدير
من جانبه، يؤكد مدير عام الصيدلة في وزارة الصحة د. زكري أبو قمر أن "العجز الدوائي يشمل جميع الخدمات العلاجية، وعلى رأسها مواد التخدير، مما يهدد حياة المرضى".
ويقول لـ"البوابة 24": "الأزمة تضرب أقسام الطوارئ والعناية المركزة وغرف العمليات. نسبة العجز في أصناف الطوارئ بلغت 39%، وتشمل مواد التخدير الأساسية مثل حقن فينتانيل ومرخيات العضلات وساكسينيل كولين".
ويضيف أن كثيرًا من العمليات الجراحية غير الطارئة أُجّلت لعدم وجود مواد تخدير كافية، فيما لا يغطي ما تم توريده من المؤسسات الدولية الحد الأدنى من الاحتياج.
ويختم أبو قمر بدعوة عاجلة للمجتمع الدولي: "نطالب بالضغط على إسرائيل لفتح المعابر وإدخال المستلزمات الطبية وأصناف التخدير لإنقاذ حياة المواطنين، خاصة الأطفال".
ما بين صرخات الجرحى على أسرّة المستشفيات وعجز الأطباء عن توفير أبسط حقوق المرضى في التخدير والعلاج، تتكشف مأساة إنسانية مركّبة يعيشها أهالي غزة يوميًا. فالألم هنا لم يعد عارضًا مؤقتًا للإصابة، بل أصبح جزءًا من رحلة العلاج نفسها، حيث يواجه المرضى الموت والأوجاع في آن واحد. وبينما تتفاقم الأزمة الصحية تحت وطأة الحصار ونقص الإمدادات، تبقى حياة آلاف المصابين رهنًا بمدى استجابة المجتمع الدولي للضغط من أجل إدخال الأدوية والمستلزمات الطبية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.