بقلم: تحسين يقين
«عسكرياً وأمنياً»، فإن سلطات الاحتلال فعلاً ليست بحاجة للبوابات في الضفة الغربية، فليس هناك ما يستدعي ذلك، وهكذا فإن الاحتلال يعاقبنا عقاباً جماعياً، لكن السؤال هو: هل ستسلك سلطات الاحتلال ما فعلته أثناء الانتفاضة الثانية، أم أن هناك جديداً تخطط له، يما يخلق واقعاً جديداً لا نعرف أمده، تكون نتيجته تحولات متنوعة ناظمها هو إنهاك شعبنا؟
فهل فعلاً لم تعد دولة الاحتلال قلقة بما تجرم به؟ وهل هي فعلاً في أريحية وضع الأرجل في ماء باردة، معتبرة أنها قد قضت على الأمة العربية، بما ضمنته من تفوق عسكري وأمني؟ فإذا كان الحال كذلك، وقد ضمنت الاستفراد بشعبنا وأرضنا وحجرنا وشجرنا، فالمفروض أنها لم تعد تبالي ولم تعد تحسب حساباً لأحد.
هي الآن في رأس الهرم، ولكن ما لا تريد إسرائيل رؤيته هو أنها رغم ذلك فإنها في هبوط، وفلسطين في صعود.
البوابات؟ هل من إعادة تجريب أم هل من جديد؟
إنها بوابات أولاً لكل المناطق التي تحيط بالمدن، وهي بالتالي بوابات للمدن. هي بوابات حديدية للمدن الفلسطينية والقرى، تمنع المركبات من المرور إلا في ساعات محددة، ولا نعرف إن كان بإمكان المواطنين اجتيازها مشياً على الأقدام.
بوابات مكونة من أثقال حديدية، ولها أقفال كبيرة، ونحن الشعب الأصلاني الذي يستأنف في كل مشرق شمس حياته، كما أي شعب، يعيش ويتنقل على الطرقات.
نحن، الشعب العربي الفلسطيني قد قررنا مصيرنا منذ عقود، فكيف يقرر الاحتلال مسألة حركتنا على الأرض؟ وهل سيقطف ثماراً إستراتيجية من محاصرتنا، وجعلنا نعيش في مناطقنا التي يريدها معازل يحصرنا فيها ويعزلنا عن بعضنا بعضاً؟ أم أن ما سيقطفه هو الخراب؛ فخراب النفوس خراب للبلاد، ولعلنا نستحضر عبارة ابن خلدون، عالم الاجتماع العالمي الأول، حين قال: إن الظلم منبئ بخراب العمران؟
في كل زمن، وفي كل فرصة تأتي لتعجيل التسوية السياسية، تختار إسرائيل العكس، من أجل تأخيرها لفرض الأمر الواقع، لكن رغم ذلك، وبعد 77 عاماً على الحرب الأولى، و58 من الحرب الثانية، ما زالت هناك فلسطين، بالقدس، واللاجئون ما زالوا وما زالت قضيتهم، وما زالت الحدود حدوداً، والمستوطنات مستوطنات غير شرعية، والماء ماؤنا.
«فلسطينيةَ العينين والوشمِ، فلسطينية الاسم، فلسطينية الأحلام والهمِّ، فلسطينية المنديل والقدمَين والجسمِ، فلسطينية الكلمات والصمتِ، فلسطينية الصوتِ، فلسطينية الميلاد والموتِ».
وهو، أي الشاعر محمود درويش، من قال قبل قليل في القصيدة:
سأكتب جملة أغلى من الشُّهَداء والقُبَلِ:
«!فلسطينيةً كانت. ولم تزلِ»
لن يفيد الاحتلال اقتراف جرائم يصعب نسيانها، فلا نفي لفلسطين، بل صارت أكثر سطوعاً.
لم يبق إلا بعض الدول التي لم تعترف بنا دولة وشعباً، وهي في طريقها للاعتراف، وعليه، فإن السحر ينقلب على الساحر: فالدولة المحتلة التي أرادت نفي فلسطين وشعبها، هي نفسها من تنفي نفسها ولو بعد حين.
خلال ذلك، أكدت دولة الاحتلال على الصورة النمطية لها، بل راحت تعمّق هذه الصورة، فتآكل ما ادعت به من معاداة السامية.
الفعل هو مناط التصوير. والملايين الكثيرة التي تشاهد حرب الإبادة لم تعد بحاجة لصور الأدب، وللميثولوجيا. وعليه فإن العمر لا يسعفها لتغيير الصورة التي تعمقت حين لم يتحرك ضمير الضاغط على زر التفجيرات.
وهكذا، فإن ما يقال اليوم لا جديد فيه، غير أن فعل القتلة ينقلب عليهم، فهم بقتلهم لوجودنا إنما يقتلون فكرة وجودهم.
ترى كيف تتشكل الصور والتصوير؟ ألا يحمل المصور بفتح الواو مسؤولية ما؟ فإذا لم يحمل جدلاً ما كان، فكيف بما يكون؟ وهكذا فإن المصوّر اليوم هو الاحتلال، وهو من يدخلنا جميعاً في هذا العالم من بوابات صورته.
يهدد الاحتلال بأبواب جهنم، في وقاحة من يحتكر الألم، ومن يبالغ في العقاب، فأي أبواب تلك التي تدخلنا بها مادياً وتدخل بها معنوياً ورمزياً وواقعياً؟
باب وأبواب وبوابات؟ ألم يكن هناك اختيار لبوابات الجنة والسلام على الأرض كما في السماء؟ أليس هناك سماوات أخرى غير سماء النار والدخان؟
أما المستخلص لمن يقرأ النفوس والورق، فهو أنه آن الأوان لتدخل عالمي غربي لوضع حدّ لما يتم من بنائه من صور، حيث إن العالم البعيد ليس آمناً، حتى وإن كان خارج الصراع، ولعل هذه الأيام في الأمم المتحدة نشهد هذا الحراك للجم الاحتلال عن فعل التقتيل غير المسبوق.
عربياً، وإسلامياً، ورغم كل ما نعرف، فإن الجسد الواحد إن قام، وإن كان واهناً، فإنه يستطيع إن أراد ضرب الضربة القاضية للاحتلال. فليس الاحتلال قدراً، وهو قويّ فقط لشعورنا بالضعف لا لضعفنا.
كل وبابه، وأبوابه، يدخل منها ويخرج، وكل وشبابيكه يطلّ منها، وقد يستخدمها أبواباً حين توصد الأبواب. والباب سلام الدخول والخروج، ثمة مجال للرؤيا والفعل، وكل وبواباته الحديدية والخشبية والوهمية أيضاً.
تدخلنا دولة الاحتلال من خلال بوابات حديدية صفراء، وتخرجنا منها، ربما تؤجل الدخول والخروج، لكن دخول وخروج كهذا، لا يعني أن تظل دولة الاحتلال حبيسة الصورة التي تعمقها عن نفسها، لقد دخلت في أبواب وبوابات سيصعب عليها الخروج منها.
أما نحن، فلنا البشارات: فـ»لا غرفة التوقيف باقيةٌ ولا زرد السلاسل
نيرون مات ولم تمت روما»
هكذا كانت نبوءة محمود درويش.
فلا تلومن دولة الاحتلال ومن تبقى من حلفاء شرّ واستعمار كولونيالي، لأنه بات واضحاً جداً من المسؤول عن بوابات الدخول إلى الصورة.
يمكننا الدخول، والخروج وإن تأجل قليلاً، لكن هناك من يدخل اليوم دروباً لن تفضي به إلا أن يصبح السجان والسجين.
[email protected]
