بقلم: عائد زقوت
في مشهد جيوسياسي عالمي بالغ التعقيد، وبعد أن وضعت واشنطن حرب غزة على بداية نهاية الطريق، تصدرت حرب كييف الاهتمام الأميركي، حيث قاد صانعو السياسة في واشنطن حراكًا نشطًا لتثبيت دور الولايات المتحدة في إدارة الأزمة، عبر التخطيط لعقد قمة رئاسية جديدة في بودابست تجمع الرئيسين الأميركي والروسي، بعد لقائهما الأول في قمة ألاسكا في 15 أغسطس 2025، والتي كان من المقرر انعقادها نهاية أكتوبر 2025 قبل أن تُلغى بشكل مفاجئ؛ حيث جاء التخطيط لقمة بودابست في إطار مساعي واشنطن لتثبيت رؤيتها لقيادة النظام العالمي وتبريد جبهات التوتر الساخنة، في وقت يواصل فيه المحور الروسي–الصيني تحركاته المقابلة، محافظًا على أوراقه الإقليمية، ولا سيّما في الشرق الأوسط؛ إذ لا تزال روسيا تحتفظ بوجودها العسكري على ساحل المتوسط عبر قاعدة حميميم في سوريا، فيما يواصل المحور توفير مظلة سياسية لإيران، مع تعزيز شبكاته الاقتصادية والاستراتيجية على المستويين الإقليمي والدولي. على هذه الخلفية، برزت صواريخ "توماهوك" الأميركية، التي تطالب بها أوكرانيا، كمحور جديد في الصراع بين واشنطن وموسكو، حيث تتقاطع فيها الأسلحة المتطورة مع الدبلوماسية، مما انعكس على ترتيبات عقد القمة، وحوّلها إلى مسار تفاوضي جديد لقياس الإرادات لا إلى صفقة قد تؤسس لإنهاء الحرب. ومن زاوية أخرى، يعكس الطلب الأوكراني بالحصول على هذه الصواريخ طموح كييف إلى تحقيق قفزة نوعية في قدراتها العسكرية، تُمَكّنها من استهداف مواقع داخل العمق الروسي، ما قد يرفع كلفة الحرب على موسكو إلى مستويات غير مسبوقة، وينعكس سلبًا على الاستقرار العالمي، سيّما في أوروبا. غير أنّ الموقف الأميركي، كما عبّر عنه الرئيس دونالد ترامب، يتسم بالحذر والبراغماتية؛ إذ تُفضِّل واشنطن تجنّب أي خطوة قد تُفسَّر بأنها تصعيد مباشر ضد روسيا، مراعاةً لتوازن الردع وحسابات الاستقرار الدولي. وانطلاقًا من ذلك، تواصل الولايات المتحدة التمسك بسياسة الدعم المشروط لأوكرانيا، أي تقديم المساعدات العسكرية والدفاعية والاستخباراتية دون استفزاز موسكو أو تغيير قواعد اللعبة؛ فصواريخ "توماهوك" ليست مجرد سلاح متطور، بل رسالة سياسية قد تفتح الباب أمام مواجهة أوسع، وهو ما تحرص واشنطن على تجنّبه. وفي موازاة هذا الجدل العسكري، كان من المقرر أن تمثّل قمة بودابست امتدادًا لمسار الانفتاح الذي بدأ بعد قمة ألاسكا، والتي لم تكن مجرد لقاء رمزي، بل اختبارًا أوليًا لإمكانية استئناف الحوار بعد سنوات من التوتر؛ إلا أنّ هذا المسار تلقّى ضربة مفاجئة بإعلان الرئيس ترامب إلغاء القمة لتعكس تشابكات السياسة المعقدة، مبررًا قراره بأنّ الظروف غير ناضجة لتحقيق نتائج ملموسة، وأنّ موسكو لم تُبدِ استعدادًا لتغيير موقفها من الحرب الأوكرانية؛ فقد جاء الإلغاء ليكشف عن حدود البراغماتية الأميركية التي توازن بين رغبة الانخراط الدبلوماسي وحسابات القوة والردع. أعاد القرار الأميركي تثبيت صورة واشنطن كلاعب حازم لا يمنح الشرعية مجانًا لموسكو، ورسالة داخلية بأنّ ترامب لا يُقدّم تنازلات مجانيّة، فيما مَثّل الإلغاء خسارة رمزيّة لبوتين، الذي يسعى جادًا للحفاظ على الدور الروسى كطرف متكافئ مع واشنطن في صياغة مستقبل النظام الدولي، على الرغم من ذلك فإنّ الكرملين لا يزال يصف القمة بأنها قيد الاعداد، مما يشير إلى فجوة في التوقعات بين واشنطن وموسكو الأمر الذي قد يؤدي إلى تصعيد اقتصادي وإعلامي؛ وفي ذات الوقت فقد رحّبت كييف بالقرار باعتباره تأكيدًا لاستمرار الدعم الأميركي ومنعًا لأي صفقة فوقية على حسابها، في حين رأى الأوروبيون في الإلغاء خطوة واقعية، لكنها تُبقي القارة في حالة توتر مزمن بين الجمود العسكري والفراغ الدبلوماسي والأضرار الاقتصادية خاصة المتعلقة بالنفط والغاز. وهكذا، تحوّل إلغاء القمة إلى علامة على مرحلة جديدة من إدارة الصراع، لا تقوم على التسوية، بل على إعادة ضبط ميزان الردع وإبقاء خطوط التواصل مفتوحة دون تنازلات كبرى. تدرك واشنطن وموسكو معًا أن أوروبا هي الشريك الإجباري في أي تسوية مستقبلية للأزمة الأوكرانية؛ فهي الطرف الأكثر تضررًا من تداعيات الحرب، سواء في مجالات الطاقة والأمن والهجرة، كما أنها المرشحة لتحمّل العبء الأكبر في إعادة إعمار أوكرانيا، مما يمنحها وزنًا سياسيًا لا يمكن تجاوزه، حيث تمتلك دول مثل ألمانيا وفرنسا قنوات تواصل أكثر مرونة مع موسكو، ما يجعلها حلقة وصل ضرورية بين المعسكرين؛ لذا تُلِّم واشنطن وموسكو أن تهميش أوروبا في أي تفاهمات مقبلة سيجعل الحل هشًّا وغير قابل للاستمرار. وعلى ضوء هذه المعطيات، تُشبه الأزمة الأوكرانية اليوم لعبة متعددة الأبعاد تتحرك فيها الأطراف بحساب دقيق بين الحرب والدبلوماسية؛ فصواريخ "توماهوك" تحوّلت إلى رمز لتوازن الردع والإشارة السياسية في آنٍ واحد، وتشير المؤشرات الراهنة إلى أنّ الأشهر المقبلة قد تشهد صفقات جزئية تمنح أوكرانيا قدرات محدودة مقابل تهدئة ميدانية، أو تسويات سياسية مرحلية تعيد رسم خطوط السيطرة دون إعلان انتصار لأي طرف، مع تصاعد تدريجي في الدور الأوروبي لضمان الاستقرار وإعادة الإعمار. في النهاية، تكشف أزمة القمة المؤجَّلة وصواريخ "توماهوك" معًا عن طبيعة الدبلوماسية الأميركية في لحظتها الراهنة: دبلوماسيةٌ تحرّكها القوة لكنها تخشى من نتائجها، وتُوازن بين منطق الردع ومنطق التهدئة؛ فواشنطن تُدير الحرب عبر إشارات مدروسة لا تُطلق رصاصة لكنها تُحدث أثرًا استراتيجيًا، وفي المقابل تستند موسكو في إدارتها للحرب على منجزاتها العسكرية على الأرض الأوكرانية وتحالفها القوي مع الصين وكوريا الشمالية؛ في مشهد يبدو فيه السلاح أداة ضغط في صراع الإرادات الجيو سياسية، وما بين القوة والواقعية.
