من ركام غزة إلى المعارض الدولية للكتاب من تحت الركام، حيث لا تزال الذاكرة تنبض بالحياة رغم الخراب، تولد الحكايات التي ترفض أن تموت. هناك، في غزة، لا يُكتب الأدب ترفًا، بل يُكتب بوصفه شهادة، وصوتًا، ومحاولة دائمة لإنقاذ المعنى من السقوط. ومن هذا الركام تحديدًا، تشق الكلمة طريقها لتصل إلى المنابر الثقافية، وإلى المعارض الدولية للكتاب، حاملةً معها حكاية شعب لا يزال يؤمن بأن الثقافة شكل من أشكال المقاومة. إن الانتقال من مشهد الدمار إلى فضاءات الكتاب والمعرفة ليس انتقالًا جغرافيًا فحسب، بل هو فعل رمزي عميق، يؤكد أن ما عجزت عنه آلة الحرب، تستطيع الكلمة أن تحفظه وتعيد تشكيله. فالأدب القادم من غزة لا يطلب شفقة، بل يفرض حضوره بوصفه فعل بقاء، ورسالة وعي، وإصرارًا على أن المدينة، مهما تهدمت جدرانها، تبقى حيّة بأصوات أبنائها.
في هذا السياق، تأتي رواية «عُمدة المدينة الفاضلة» للكاتب محمود بِنْ عبد العزيز، الصادرة عن دار درة الشرق للنشر والتوزيع برئاسة الكاتبة إيمان عنان، بوصفها عملًا ينتمي إلى هذا المسار الإنساني والفكري، حيث تتقاطع فكرة المدينة مع سؤال العدالة، وتتجاور المقاومة مع الحلم، ويصبح الإعمار فعلًا أخلاقيًا قبل أن يكون مشروعًا عمرانيًا. الرواية لا تقف عند حدود الجغرافيا، بل تتجاوزها لتطرح سؤال المدينة بوصفها فكرة، والإنسان بوصفه حجر الأساس في بنائها أو سقوطها.
ومن غزة، بما تمثله من رمز للصمود، تنفتح الرؤية على معنى أوسع للمدينة الفاضلة؛ تلك التي تُبنى بالقيم، وتحرسها الذاكرة، وتنهض كل مرة من بين الأنقاض. إن وصول هذا الصوت الأدبي إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب 2026، أحد أهم المحافل الثقافية في العالم العربي، هو تأكيد جديد على أن الثقافة الفلسطينية والعربية قادرة على العبور، وعلى أن الكتاب ما زال يحمل دوره التاريخي في مواجهة النسيان. فالمعارض الدولية للكتاب ليست مجرد فضاءات عرض، بل منصات لاعتراف العالم بحق الشعوب في سرد حكايتها بنفسها. من ركام غزة إلى أجنحة المعارض، تسافر الرواية حاملةً سؤال الإنسان، ووجع المدينة، وأمل الإعمار. إنها رحلة الكلمة حين تختار الحياة، وتصرّ على أن تكون حاضرة، مهما اشتد الظلام.
