كشفت صحيفة هآرتس العبرية في تقرير تحليلي موسع، عن التحول الجذري الذي طرأ على العقيدة العسكرية والسياسية لإسرائيل، لاسيما في عهد حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، إذ كانت الدولة العبرية على مدى عقود، تعتمد على نمط الحروب القصيرة والمحدودة، ليس فقط من أجل الحفاظ على جهوزية قوات الاحتياط، بل لتقليل كلفة الصراع اقتصاديًا، ومنع انهيار الدعم الداخلي والدولي لمشروعية إسرائيل، الذي غالبًا ما يتأثر سلبًا مع طول أمد الحروب.
لكن تلك العقيدة – بحسب الصحيفة – لم تعد قائمة في ظل القيادة الراهنة، فقد انقلب نتنياهو على هذا النهج التاريخي وكرس سياسة جديدة تقوم على إطالة أمد الحرب، خصوصًا في قطاع غزة، متعمدًا إبقاء النزاع مفتوحًا دون أفق لنهايته.
تحصين موقع نتنياهو
والسبب، كما تشير هآرتس، ليس عسكريًا بقدر ما هو سياسي، إذ تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى استغلال حالة الحرب الدائمة كأداة لإسكات الأصوات المعارضة، وتحصين موقع نتنياهو الذي يواجه ضغوطًا سياسية وشعبية غير مسبوقة عقب فشل 7 أكتوبر.
اقرأ أيضًا:
- أولمرت يشن هجومًا حادًا على نتنياهو: ما يجري في غزة يقترب من "جريمة حرب"
- بعد تحول موقفه.. تفاصيل صفقة سرية بين نتنياهو وسموتريتش مقابل إدخال المساعدات إلى غزة
في أجواء ملبدة بالمخاوف الأمنية، حيث تسيطر مشاهد الملاجئ والانفجارات والحديث المستمر عن "الخطر الوجودي"، يتراجع الزخم الشعبي في مواجهة الحكومة، رغم أنها تتحمل مسؤولية أكبر إخفاق أمني وعسكري في تاريخ إسرائيل، وفق ما وصفته الصحيفة.
وهذا التراجع في النقد العام يعزز فرص نتنياهو في الصمود السياسي، ويدفع مكونات الائتلاف اليميني المتطرف إلى تمتين التحالفات الداخلية، تحت شعار "الوحدة في زمن الحرب".
واعتبر التقرير أن نتنياهو، الذي بنى صورته السياسية على مدار العقود الماضية باعتباره رجل الأمن القوي، يواصل استغلال الحرب الدائرة في غزة لتحقيق مكاسب داخلية، إذ يتعمد اللجوء إلى صفقات جزئية ومحدودة بشأن إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين في غزة، لكنه في الوقت ذاته يرفض وقف الحرب أو إنهاء العمليات العسكرية، بما يعكس رغبته في الإبقاء على النزاع كأداة سياسية لا غنى عنها في الوقت الراهن.
تآكل الجيش
وتحذر الصحيفة من أن هذا النهج لا يخلو من تداعيات استراتيجية خطيرة، فإطالة أمد الحرب لم تؤثر فقط على الفلسطينيين، بل بدأت تأكل من الداخل الإسرائيلي نفسه، فجنود الاحتياط، الذين يشكلون العمود الفقري للعمليات العسكرية، يعانون من إنهاك متزايد جسديًا ونفسيًا، بينما الجيش النظامي يواجه استنزافًا غير مسبوق في قدراته العملياتية واللوجستية.
أما داخليًا، فتؤكد هآرتس أن ما يسمى بالإجماع الوطني حول أهداف الحرب بدأ يتآكل، وسط تصاعد التساؤلات حول الأولويات، والشكوك المتزايدة في مدى واقعية الطموحات العسكرية المعلنة.
وفي الوقت نفسه، تتدهور صورة إسرائيل عالميًا، إلى مستويات لم تشهدها من قبل، حتى بين أكثر حلفائها تقليدية، حيث أشارت الصحيفة إلى أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي كانت من أبرز داعمي إسرائيل بدأت تفقد صبرها إزاء سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية.
ورغم توفر فرص واقعية لإبرام اتفاقيات تفضي إلى الإفراج عن الأسرى وإنهاء الحرب بشكل تدريجي، إلا أن القيادة الإسرائيلية تواصل التهرب من هذه السيناريوهات، مفضلةً المراوغة والرهان على كسب الوقت، رغم علمها الكامل – بحسب الصحيفة – بأن حسم الصراع مع حماس عسكريًا هو أمر بعيد المنال.
تشدد نتنياهو
وفي موقف يعكس التشدد الأيديولوجي، يصر نتنياهو ووزير ماليته المتطرف بتسلئيل سموتريتش على أن إبرام أي صفقة تبادل أو وقف لإطلاق النار، سيكون بمثابة "رضوخ" لحركة حماس، بل و"انتصارًا" لها.
ومع ذلك، يحذر التقرير من أن الحكومة تخطئ إن ظنت أنها قادرة على خداع حماس، أو التراجع لاحقًا عن التزاماتها الدولية، مشددًا على أن الحركة ليست "ساذجة أو قابلة للابتلاع بمناورات سياسية سطحية"، كما عبّرت الصحيفة.
وبينما تتسع رقعة الحرب وتتعمق خسائرها، يبقى السؤال المطروح داخل إسرائيل: هل يواصل نتنياهو المضي في هذه السياسة الانتحارية من أجل البقاء في الحكم؟ أم أن الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية الداخلية والدولية ستفرض في النهاية تحولًا جديدًا في المعادلة؟.