في لحظة إقليمية مفصلية، تجاوزت نيران التوتر حدود غزة وطهران، لتصيب في عمقها العلاقة الشخصية والاستراتيجية بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فبعد سنوات من تحالف بدا في ظاهره متينًا، طفت على السطح مؤشرات شقاق متزايد، توّجته مكالمة هاتفية عاصفة بين الرجلين، كشفت عن تصدع في ثوابت العلاقة الأميركية–الإسرائيلية، وعن تبدل في موازين القيادة والتأثير بين الحليفين.
مكالمة عاصفة
بحسب ما كشفه موقع "والا" العبري، فإن المكالمة الهاتفية الأخيرة بين ترامب ونتنياهو لم تكن مجرد تواصل روتيني، بل كانت حادة ومباشرة بشكل غير مسبوق، كما وجه ترامب تحذيرًا واضحًا لنتنياهو مطالبًا إياه بعدم اتخاذ خطوات من شأنها تقويض مسار التفاوض مع إيران، مؤكدًا أن واشنطن تفضل حلاً دبلوماسيًا شاملًا دون أن تغلق الباب أمام بدائل أخرى إذا اقتضت الحاجة.
اقرأ أيضًا:
- مبعوثو ترامب يفجرون مفاجأة لعائلات الأسرى الإسرائيليين.. هل اقتربت الصفقة الكبرى؟
- ترامب يبحث عن منفذ لإنهاء الحرب ونتنياهو يناور للبقاء.. ماذا ينتظر غزة؟
وتزامن هذا التحذير مع جهود يبذلها البيت الأبيض لصياغة صفقة تتضمن تبادلًا للرهائن ووقفًا لإطلاق النار في غزة، في محاولة لتحقيق إنجاز سياسي يعزز صورة ترامب كرئيس قادر على إدارة الأزمات دون التورط في نزاعات مفتوحة، غير أن هذا النهج الأميركي اصطدم برؤية نتنياهو الأمنية التي تعتبر أن استعادة الرهائن لا يمكن أن تتم إلا عبر الحسم العسكري، وهو ما ترجم على الأرض بتوسيع العمليات في غزة، واستدعاء أكثر من 450 ألف جندي احتياط في مشهد يوحي بالتصعيد لا التهدئة.
تباين في الرؤى
وقدم الجنرال المتقاعد والدبلوماسي الأميركي مارك كيميت، في لقاء مع قناة "سكاي نيوز عربية" تشخيصًا واضحًا لطبيعة الخلاف بين الرجلين، واصفًا إياه بصدام رؤى لا يمكن اختزاله في خلاف عابر، فبحسب كيميت، نتنياهو هو رجل ميدان يؤمن ببناء الردع عبر القوة العسكرية، ويعتبر نفسه الأعلم بمصلحة إسرائيل.
وفي المقابل، ينظر ترامب إلى الحروب باعتبارها كوارث يجب تفاديها، ويعتمد على مقاربات سياسية واقتصادية أكثر مرونة.
وأكد كيميت أن نتنياهو، ورغم احتفاظه بعلاقات قوية مع أجهزة الأمن القومي الأميركية، لا يملك القدرة على فرض خياراته على ترامب، الذي لا يزال يحتفظ بمفاتيح القرار في ما يتعلق بملفات استراتيجية كإيران وفلسطين.
رهائن غزة
من أكثر الملفات حساسية بين الطرفين، ملف الرهائن المحتجزين في غزة، ففي حين ترى واشنطن أن هذه الورقة يمكن أن تستخدم لإطلاق مسار تفاوضي شامل يشمل تهدئة في غزة وانفراجة مع إيران، يعتبرها نتنياهو ورقة ضغط لا يجوز التفاوض حولها.
ويصر رئيس الوزراء الإسرائيلي على أن تحرير الرهائن لا يمكن أن يتم إلا بالقوة، معتبرًا أن التفاوض في هذا السياق يعني الانصياع لحماس.
واوضح كيميت أن ترامب، على العكس، يرى في ورقة الرهائن فرصة دبلوماسية يجب استغلالها، في ظل سعيه لبناء سجل سياسي ناجح في الشرق الأوسط، يشمل التهدئة مع إيران، وترتيب المشهد الإقليمي دون خوض مغامرات عسكرية مكلفة.
إيران
ولا يقف الخلاف بين ترامب ونتنياهو عند غزة، بل يمتد إلى الملف الإيراني الذي يعد نقطة التصدع الأعمق، فترامب، الذي انسحب سابقًا من الاتفاق النووي، يبدو اليوم مستعدًا لتفاوض جديد مع طهران، لكن بشروط أكثر صرامة، وهو يوازن بين الدبلوماسية والعقوبات ضمن ما يسمى بـ"الضغط الأقصى"، في حين يرى نتنياهو أن أي عودة للتفاوض مع النظام الإيراني تعد تنازلًا استراتيجيًا لا يمكن القبول به، بل ويدعو صراحة إلى تدمير البنية التحتية للبرنامج النووي الإيراني.
وبحسب كيميت، فإن هذه الفجوة في المواقف تشكل إسفينًا خطيرًا بين الحليفين، خاصة في وقت تسعى فيه إدارة ترامب لترسيخ نهج جديد في المنطقة يقوم على "التوازن الذكي" وليس الاصطفاف الكامل.
إعادة ترتيب أوراق الشرق الأوسط
الخلاف بين واشنطن وتل أبيب يتجاوز الملفات الثلاثة الكبرى (غزة، الرهائن، إيران)، ليمتد إلى مؤشرات أخرى على تغيير أوسع في مقاربة الولايات المتحدة للمنطقة، ومن توقيع هدنة مؤقتة مع الحوثيين، إلى تخفيف محدود للعقوبات المفروضة على سوريا، وانفتاح محسوب على تركيا، كلها خطوات فسرت في تل أبيب على أنها مؤشرات لتراجع الدعم المطلق لإسرائيل.
وفي هذا السياق، يوضح كيميت أن ترامب لا يتخلى عن إسرائيل، بل يعيد هندسة موازينه في المنطقة بما يتماشى مع أولويات واشنطن الداخلية والخارجية، ورغم أن ترامب لا يستبعد اللجوء إلى القوة إذا فشلت الحلول السياسية، فإنه لا يسعى – في الوقت الراهن – إلى إشعال أي جبهات.
وتقوم عقيدة نتنياهو السياسية على أن الحرب ليست مجرد أداة ضغط، بل وسيلة أساسية لبناء الردع وتغيير المعادلات الإقليمية، غير أن هذه المقاربة تصطدم اليوم برؤية أميركية مختلفة، تؤمن بالتفاوض لتثبيت الاستقرار بدل تغييره بالقوة.
وتتجلى الفجوة بين الطرفين في طريقة مقاربتهما للأزمات، فترامب يريد تسوية شاملة تبدأ من الرهائن وتمر عبر غزة وصولًا إلى طهران، بينما يسعى نتنياهو إلى الحسم العسكري باعتباره الطريق الوحيد لتحقيق الأمن الإسرائيلي.