مُطلّقات.. أُمّهاتٌ فاقداتٌ لم يحظين بنظرة "وداع"!

صورة توضيحية
صورة توضيحية

غزة/ البوابة 24- أحلام عبد القادر:

"وكأن روحي تمزقت"، بهاتين الكلمتين بما حملتهما من معانٍ مكثفة بالوجع والقهر، وبقلبٍ يقطر ألمًا تحدثت "إيمان" لـ "البوابة 24" عن قصتها مع البعد.. والفقد!

هي حكاية بين حكايات كثيرة لأمهات انفصلن عن أزواجهن، واكتوين باستشهاد أطفالهن بعيدًا عن عيونهن، وحرمن نظرة الوداع بعدما فاضت أرواحهم، وقُطفت كأزهار قبل اكتمال نموها.

"إيمان"، اسم مستعار لامرأة مطلقة، تخبرنا أنها تخلصت من ظلم زوجها وتسلطه قبل نحو عامين من اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023م، "بعدما أذاقني الويلات خلال الزواج وعلى مدار 3 سنوات في المحاكم".

انفصلت إيمان (42 عامًا) عن زوجها لنحو 3 سنوات قبل الطلاق، منعها خلالها من زيارة أطفالها أو حتى رؤيتهم، فاضطرت إلى اللجوء للمحكمة طلبًا لحضانتهم، وفق ما ينص عليه القانون، وبحسب وصفها: "غرقت في بحر من المشكلات، حتى حصلت على حقي بحضانة أصغر أطفالي".

استشهاد الروح

لدى هذه الأم أربعة أطفال، وهم: يارا (15 عامًا) وأحمد (14 عامًا) وسارة (12 عامًا)، وأصغرهم محمد (7 أعوام)، ولم يمض وقت طويل على حضانتها لمحمد حتى قام زوجها بخطفه وأخذه بالقوة من والدها خلال وجودهما بالشارع، ولجأت إيمان للمحكمة مجددًا وهذه المرة بقضية طلاق.

وبعد سنوات والكثير من جلسات المحكمة، تقول: "تنازلت عن كل حقوقي الشرعية والمدنية في مقابل تعهد منه (الزوج) برؤية أطفالي من ساعتين إلى 3 ساعات مرة واحدة أسبوعيًا، والتزم بذلك مع وجود وسطاء، حتى تزوجت مرة ثانية، فأجبر أطفالي على مقاطعتي، ومارس عليهم ضغوطًا للتحريض ضدي، ونجح في زرع الكره نحوي في قلوبهم".

"كان هذا قبل اندلاع الحرب، ولفترة طويلة حُرمت من رؤية أطفالي.. لقد أثّر والدهم عليهم حتى أنهم قطعوا أي اتصالات بي" تقول، مردفةً: "كنت أذهب لرؤيتهم -ولو من بعيد- أثناء ذهابهم وإيابهم من المدرسة وإليها" تقول إيمان.

وتضيف: "ابنتي الشهيدة كانت الوحيدة في ذلك الوقت الذي تسعد برؤيتي ومقابلتي"، مواصلةً: "بقيت أراهم فقط في طريق المدرسة، وفي كل أسبوع أجلب لهم جميعًا الهدايا، حتى تحسنت العلاقة بيننا، ثم اندلعت الحرب".

كانت إيمان راضية سعيدة بهذا التطور في علاقتها بأطفالها، وإن كانت تأمل في علاقة طبيعية أكثر، ولا يشوبها خوف الأطفال من معرفة أبيهم بعلاقتهم مع أمهم. تردف: "كنا سعداء بكل لقاء ونشتاق للقاء التالي، ونلتقي حسبما تسنح الظروف، خاصة مع تصاعد وتيرة الخطر".

وخلال هذه اللقاءات تعمقت قناعاتي بأن يارا هي أكثرهم تميزًا، وأقربهم شبهًا لي، كانت تتشارك معي في الطموح والأحلام، لكن يا للأسف، لم تكن لقاءاتنا كافية..

تقارير إنسانية مشابهة

غياب "الفوط الصحية".. امرأة في "غزة" يعني "النزف" مرّتين!
يوميات الأمهات الجائعات.. كيف يُسقط الجوع أحلام الغزّيات بالأمومة؟

اندلعت الحرب. استمر التواصل بين إيمان وأولادها عبر الهاتف، في تلك الليلة تحدثت إيمان مع يارا وأخوتها، قبل أن تذهب للنوم، وفي ساعة متأخرة من الليل تقول: "أيقظتني أمي وقالت لي حدث قصف قرب منزل أطفالك، وكانت الساعة تشير للرابعة فجرًا. اتصلت وجاءني الخبر: أولادك بخير ولكن يارا إصابتها خطيرة".

لم يمض وقت طويل حتى جاءها الخبر المباغت: "بنتك استشهدت"، وبعد لحظة صمت ممزوجة بحشرجة في الصوت مختلطة ببكاء وكأنها تتلمس جرحًا غائرًا في قلبها، تضيف إيمان: "شعرت لحظتها أن روحي تمزقت، ولا يمكن للكلمات أن تصف ما شعرت به في ذلك اليوم".

لم تنتظر إيمان بزوغ النهار، وذهبت إلى بيت عم أطفالها لرؤيتهم، وبعدها للمستشفى من أجل البقاء إلى جانب ابنتها سارة التي كانت مصابة لكن لم يخبرها أحد بذلك في المكالمة الأولى.. وهناك وأمام الموظفين والمرضى ومرافقيهم كانت الصدمة: "طليقي لم تؤثر به مصيبتنا بفقد ابنتنا، وثار غضبًا في وجهي. صرخ بشدة، وطردني من المكان".

مأساة آلاء

بدأت مأساة آلاء القطراوي عند اجتياح الاحتلال لمدينة خانيونس في الأول من ديسمبر عام 2023م، إذ يقع منزل أطفالها في منطقة السطر الشرقي، وقد حاصره جنود الاحتلال واقتحموه، واعتقلوا من كان موجودًا فيه من الرجال، وسرقوا أموال النساء ومصاغهن، ثم أمروا بتفتيش الموجودين وسحب جميع أجهزة الهواتف المحمولة منهم وبقي هاتف واحد كان مخفيًا لم يلحظه الجنود. طلبوا منهم أن يسمحوا لهم بالخروج لكن الاحتلال رفض خروجهم من المنزل وأبقاهم محاصرين.

وتروي آلاء لـ"البوابة 24" فصول هذه المأساة بقولها: "استطاع ابني يامن (8 أعوام) محادثتي عبر ذلك الهاتف المتبقي، وشرح لي ما حدث معهم من تخويف وتعذيب وإجرام، إذ قام الجنود بتفجير جميع أسطوانات الغاز الموجودة في المنزل وقاموا بتفجير خزانات المياه وتكسير كل محتوياته".

"وبعد ذلك انتشرت الجرافات والدبابات حولهم وهدمت سور المنزل وأجزاءً منه"، تحكي آلاء بحسرة: "كانوا يرسلون لي رسائل مفادها: نحن نموت، إنهم يدفنوننا أحياء ويقومون بتجريف المنزل فوقنا (..) تخيلي أن تعيش أم هذه اللحظات المرعبة المأساوية وهي تعرف أن أطفالها الأربعة داخل ذلك البيت المحاصر".

تزيد: "تواصلت مع الصليب الأحمر، قلت لهم أطفالي موجودون وحدهم مع جدتهم في المنزل. أريد أن تتدخلوا لتخرجوهم، لكن موقفه كان في منتهى السوء، ولم يفعل شيئًا متذرعًا بأن الاحتلال يرفض التنسيق معه، ناشدت حتى الأونروا، التي أعمل ضمن طاقمها في قطاع غزة، والكثير من الهيئات.. كلمت يامن وقد مر على الحدث بضعة أيام، وفي 13 ديسمبر كانت هي المكالمة الأولى والأخيرة بعد حصارهم، قال لي: ماما لقد جرفوا سور منزلنا وجرفوا حائط غرفتي التي أنام فيها أنا وكنان وأوركيدا وكرمل، ثم أكمل ببراءته المطلقة: لكن ماما شاشة التلفاز لم تزل بخير".

كان يامن يدرك خطورة الموقف (والحديث لآلاء)، قال لي: "نريد أن نخرج من هنا، لكنك تحتاجين تنسيقًا للوصول إلينا، هنالك دبابات كثيرة من حولنا وقناصة كثيرون".

تضيف: "كلمت كنان (6 أعوام)، فقال لي إنه خائف جدًا ولا يستطيع النوم، ثم كلمت أوركيدا (6 أعوام) وأوصيتها ألا تخرج أبدًا من المنزل لوجود قناصة من حولها، وأن تحرص على شقيقتها الصغرى كرمل (عامان ونصف)، إذ لم يزل صوتها وهي تنادي ماما لا يغيب عني أبدًا.. قلت لها سأفعل ما بوسعي لإخراجكم، ثم انقطع الاتصال منذ ذلك الوقت".

"توقفت خدمة الاتصالات آنذاك عن العمل بسب قصف مقاسمها، فقلت علهم لا يستطيعون مراسلتي، كنت كل يوم أرسل لهم رسائل عبر الهاتف المتبقي لديهم. تصل رسالتي لكن لا يصلني أي رد عليها، وأصبحت أتتبع الأخبار حول المنطقة فلا أحد يستطيع الوصول لها بسبب تحويلها إلى مقر للعمليات العسكرية الإسرائيلية"، تضيف آلاء.

"كابوس"

تواصل آلاء رواية فصول المأساة: "أخبرني البعض أنه يمكن أن يكون الاحتلال قد أخرجهم من المنزل وجمع السكان الذين تبقوا في المنطقة وهم كثيرون جدًا، فهنالك عائلات كثيرة ظلت عالقة كأطفالي في تلك المنطقة المحاصرة، وأن الاحتلال ربما يبقيهم تحت حجر عسكري، فعشت على هذا الأمل، وقلت ربما أخذهم الاحتلال لجهة ما وهم غير قادرين على التواصل معي أو ربما هم ما زالوا في البيت لكنهم لا يجدون مصدرًا لشحن الهاتف الذي بحوزتهم، كنت أبتهل إلى الله وأتوسل له أن يكونوا بخير وأستودعهم إياه، وأسأله دائمًا أن يكونوا في عينه، فقد قطعت عني كل الأسباب".

وبينما هذه الأم المكلومة على هذه الحال، استطاع عم الأطفال الذي لم يكن في المنزل آنذاك أن يصل إلى المنزل بصعوبة بالغة وفوق رأسه مسيرات الكواد كابتر، التي تطلق الرصاص على كل من يتحرك في تلك المنطقة.

تقول آلاء: "شاء الله أن يصل إلى هناك وأن ينجو، كان ذلك في صباح 21 شباط/ فبراير، إذ وصلتني رسالة من والد أطفالي وهو طليقي أن المنزل مقصوف تمامًا على كل من فيه، وأن شقيقه وجد أحد أخوته جثة متحللة على باب المنزل".

تسكت آلاء برهةً، ثم تكمل: "يبدو أمرًا مرعبًا أليس كذلك؟ نعم لقد عشت كل هذا كأم، أعيش في وسط القطاع في مخيم النصيرات إذ أبتعد عن منزل أطفالي بالسيارة مدة 20 دقيقة فقط، ولـ 120 يومًا لم أستطع الوصول لمنزلهم! في غزة فقط تتحول الدقائق إلى أيام طويلة ثقيلة جدًا".

"لم أكن أتوقع أن يحدث هذا أبدًا، لم أكن أظن أن ابتلائي في الدنيا شديد إلى هذا الحد، الحمد لله الذي اصطفاني لمقام الصبر هذا"، بصبر جميل تتحدث آلاء.

تبدي آلاء صبرًا كبيرًا على فراق أطفالها وقد احتضنتهم الأرض من دون وداع، غير أنها تقول: "كأم وكشاعرة لست قوية حين أكتب، إنني أبكي في كل مرة أكتب فيها وأبكي كلما أعدت قراءة ما كتبته عن أطفالي ولهم، لكنه الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أفعله، فأنا لن أسمح أن يتحول يامن وكنان وأوركيدا وكرمل إلى مجرد أرقام في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، سأحاول بكل وسعي وحتى آخر نفس في حياتي أن أذكر العالم بوحشية هذا الاحتلال القذر".

الأثر النفسي

ولفقد الأبناء آثاره من الناحية النفسية على الأمهات المطلقات، خاصة وأن منهن من طال زمن غيابهن عنهم، ولم يرونهم بسبب الخلافات مع الطليق وقد حرمن حتى من نظرة الوداع.

تقول أستاذة الصحة النفسية في جامعة الأقصى الدكتورة آمنة حمد لـ"البوابة 24": "الفقد يحمل آثارًا نفسية عميقة ومدمرة تتجاوز الحزن العادي وتتعدى خطوط الألم الطبيعي لتكون غائرة في النفس مزمنة بالألم، فتدخل الأم في شيء اسمه صدمة الفقد القسري، وهذا النوع يفوق الفقد العادي لأنه فقدٌ مع الحياة، وهو أشد إيلامًا".

من هنا تشعر الأم بالذنب من مشاعر التقصير -رغم أنها هي الضحية- ولكن مشاعر الحب والعاطفة تجعلها تشعر بأنها هي المذنبة، وفق حمد.

وكذالك يحدث لدى الأم اضطرابات الحزن المُعقّد، حيث لا يسير الحزن في مساره الطبيعي وإنما يتجمد عند نقطة الانكسار "فدائمًا تكون منكسرة الأحاسيس والمشاعر، ما يجعلها تدخل في حالات الاضطرابات النفسية والاكتئاب وقد تتطور إلى رغبة في الانتحار" تضيف.

وتكمل: "كما أنها تهدم هويتها الأمومية، التي هي جزء من كينونة المرأة، وتشعر بأنها لا أهمية لها إذا ما مارست دورها كأم أيضًا. يحدث لديها قلق مزمن واحتراق داخلي ممزوج بمشاعر الألم، ما يجعلها في عزلة وصمت ووحدة مؤلمة".

وبرأي الدكتورة حمد، فإن بعض هؤلاء الأمهات يدخلن في جلد الذات العنيفة من شدة مشاعر الحزن التي تنتابهم، بالأخص عندما تحرم من أبنائها قسرًا، ما يجعلها أسيرة الإحساس بالذنب ولوم النفس، وتُحدّث نفسها لو أنها تحملت أذى الزوج وإهاناته لكانت بين أطفالها وفي أحضانهم ما يزيد من عذابها وحسرتها عليهم.

البوابة 24