غزة/ البوابة 24- سهاد راضي:
تحمل مي الخطيب صينية العجين فوق رأسها، وتقطع مسافات طويلة عبر طرق مليئة بالحفر والركام. لا ترى من حولها، لكنها تؤمن أن نهاية الطريق ستحمل معها دفء الخبز ورائحة الصمود. كل خطوة تخوضها تحدٍ جديد، وكل سقوط يعقبه نهوض، وكأن الألم يزيدها إصرارًا على الحياة.
في قلب غزة المحاصرة، حيث تختلط أصوات الانفجارات بصمت الليل، تمضي مي الكفيفة بثبات نادر. لا تحمل عصًا ترشدها، ولا يرافقها أحد، لكنها تعرف طريقها وسط الخراب، كعنقاء تولد من رماد الحرب كل صباح.
في خيمة صغيرة وسط عالم مدمَّر، تخوض مي معركة يومية مع الجوع والعطش. ورغم قسوة الظروف، ترفض التراجع، فهي ترى أن الاستمرار شكل آخر من أشكال الأمل، وأن الكرامة تستحق الكفاح مهما اشتد الظلام.
ما قبل الحرب: استقلالية تتحدى العتمة
قبل أن تشتعل الحرب، جسّدت مي صورة الإرادة الحرة. تخرجت في كلية التربية – قسم اللغة العربية بالجامعة الإسلامية، وحوّلت إعاقتها إلى دافع للتفوق. انخرطت في ورش عمل ودورات تدريبية، وأشرفت على حلقات تحفيظ القرآن الكريم بشغف.
لم تقتصر حياتها على الدراسة والعمل، بل عُرفت بحضورها الاجتماعي ومشاركتها صديقاتها النزهات، كما نقلت خبرتها في لغة بريل إلى المبصرين بجامعة القدس المفتوحة – شمال غزة. وإلى جانب ذلك، واصلت حفظ القرآن وتجويده، وخاضت تجارب عمل مؤقت وفّرت لها خبرة ومصدر دخل مستقل.
زمن الحرب: نزوح ومعاندة الفقد
مع بداية العدوان، فقدت مي جزءًا كبيرًا من استقلاليتها، مثل كثير من فاقدي البصر، بعدما أصبحت الطرق غير آمنة والمواصلات شبه معدومة. ومع ذلك، أصرت على البقاء في مخيم جباليا – تل الزعتر، لا تغادره إلا مضطرة، متنقلة بين الأحياء مع كل موجة قصف، ثم عائدة كلما هدأ القتال، وكأنها تعاند النزوح.
في سبتمبر 2024، تعرّض المخيم لقصف عنيف، لكن العائلة بقيت. في إحدى الليالي، جلست مع شقيقتها محاسن حول مائدة بسيطة لا تضم سوى طبق "مقلوبة" بالباذنجان، محاولة أن تزرع ابتسامة في أجواء الموت. كانت محاسن اليد والعين والونس. لكن لحظة انفجار قلبت كل شيء؛ وجدت مي نفسها تحت الركام مصابة بجروح وحروق، فيما ارتقت محاسن شهيدة. ضمّت جسد أختها هامسة: «محاسن بردانة… غطوها»، وكأن بصرها عاد للحظة لتراها وجهًا مضيئًا كالقمر.
منذ تلك الليلة، حملت مي جرحًا لا يندمل. فقدت نصف روحها، لكنها احتسبت ما جرى عند الله، وواصلت الصمود رغم تبدّل ملامح حياتها بالكامل.
النهوض من جديد
برحيل محاسن، افتقدت مي سندها الأقرب، لكن غيابها صار دافعًا للنهوض. نزحت العائلة من جباليا إلى الشيخ رضوان، ثم إلى الشاطئ، وأخيرًا إلى منزل غير مكتمل البناء في حي الرمال، بجدران عارية وسقف هش لا يقي حر الصيف ولا برد الشتاء.
في هذا الواقع القاسي، حملت مي مسؤوليات جسيمة: إعداد الطعام، غسل الملابس، تنظيف البيت، عجْن الخبز، وحمل صينية العجين للمخبز بين طوابير النساء. صارت تقف في طوابير التكية بحثًا عن وجبة ساخنة، ولو ضاعت منها في الطريق، وتنقل جالونات الماء إلى الطابق العلوي درجة درجة رغم التعب. حتى السوق صارت تقصده وحدها، تسأل وتساوم وتحمل ما تحتاجه، كأنها ترشد نفسها بإرادة لا تنكسر. بهذا النهوض، أوفت لوعدها لأختها، وكأنها تقول: «أنا كما وعدتك… ما زلت واقفة».
في أغسطس 2025، عانت مي ضربة جديدة بفقدان شقيقها أمين، الذي استشهد أثناء تأمين شاحنات المساعدات للأهالي. بسقوطه، سقط جزء آخر من قلبها. انهارت وبكت، لكنها لم تلبث أن تماسكت، تنهض مرة أخرى كالعنقاء، تمسح دموعها وتواصل حمل الرسالة.
مع تزايد القصف، نزحت العائلة من حي الرمال إلى دير البلح، حيث أقاموا خيمة فوق سطح بيت. وهناك تحوّلت مي إلى مصدر قوة لعائلتها، تجمع شتاتهم بابتسامة تخفي وجعها. واصلت تعليم البنات القرآن واللغة العربية، نظمت حلقات صغيرة، ولاعبت الصغيرات لتبدد خوفهن من الطائرات، وتزرع فيهن الأمل بالكلمة والحرف.
رسالة صمود وإيمان
وسط ركام الحرب في غزة، تروي مي قصتها مع الفقد والعدوان. تقول: «رغم الألم، قلبي مليء بالرضا. الصبر إيماني، والقرآن نوري». رسالتها للناس أن يستثمروا وقتهم في الطاعة ويتركوا أثرًا طيبًا: «ما في أجمل من إنسان يُذكر بخير بعد غيابه». أما لأصحاب الإعاقة البصرية فتقول: «أنتم أقوياء، إعاقتكم لا تمنعكم من النجاح، بل تمنحكم نورًا خاصًا يفتقده كثيرون».
تأمل مي أن تنتهي الحرب ويعود الأمان إلى غزة، وتحلم بمجتمع يحتضن المكفوفين ويمنحهم الاستقلالية. وأمنيتها الأكبر أن تنشئ مركزًا لتحفيظ القرآن، ليكون منارة نور وأمل كما كان لها في عتمة الحرب. مي الخطيب.. صوت من غزة يثبت أن الإيمان قادر على هزيمة الظلام.